رمضان والتربية على العفة
كتب بواسطة الدكتور عبد المجيد البيانوني
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1708 مشاهدة
يُوسُفُ الصدّيق عليه السلام نموذجاً ..
رمضان شهر تربية النفس على التقوى .. وعلى العفّة خصوصاً : والعفّة من أعظم الصفات النفسيّة ، والمَلكات الخلقيّة ، التي تدلّ على استعداد النفس للمكارم ، وسموّها وطهارتها .. فإذا اقترنت بتقوى الله تعالى فقد تحصّنت بالركن المَتين المَكين ، الذي يزيد العفّة توثيقاً وتمكّناً .. يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله في بيان منزلة العفّة من التقوى : « ... التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس ، وهو الصدق في التقوى ، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة ، فصار لا يبني ما لا يسكنه ، ولا يجمع ما لا يأكله ، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنّها تفارقه ، ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفَساً من أنفاسه ، فهو الصدق ، وصاحبه جدير بأن يسمى صدّيقاً ، ويدخل في الصدق التقوى ، ويدخل في التقوى الورع ، ويدخل في الورع العفّة ، فإنّها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشهوات خاصة ، فإذن : الخوف يؤثّر في الجوارح بالكفّ والإقدام ، ويتجدّد له بسبب الكفّ اسم العفّة ، وهو كفّ عن مقتضى الشهوة ، وأعلى منه الورع ، فإنّه أعمّ ، لأنّه كفّ عن كلّ محظور ، وأعلى منه التقوى ، فإنّه اسم للكفّ عن المَحظور والشبهة جميعاً ، ووراءه اسم الصدّيق والمُقرّب ، وتجري الرتبة الآخرة ممّا قبلها مجرى الأخصّ من الأعمّ ، فإذا ذكرت الأخص فقد ذكرت الكلّ .. » .. إحياء علوم الدين (4/156) .
وقال الراغب : وأهمّ الفضائل التي اختصّ الإنسان بها ، واستصلح لها ممّا لم يكن للملائكة : الاتّصاف بالعِفَّة ، التي هي مختصّة بالقوّة الشهويّة ، والنجدة المُختصة بالقوّة الغضبية ، والإنصاف في المُعاملات ، وسياسة الإنسان نفسه ، ومجاهدة هواه ، وسياسة ذويه وأبناء جنسه ، فإنّ كلّ ذلك فضائل ليست إلاّ للإنسان المُختصّ بقوّته الشهويّة والغضبيّة .. والصبر ضربان : صبر عن المُشتهى ، وهو العِفَّة ، وصبر على المَكروه ، وهو الشجاعة .
ويدخل في العِفَّة الجود ، إذ الجود ضربان : أن تكون بما في يدك مُتبرّعاً ، وأن تكون عمّا في يد غيرك مُتورّعاً ، والزهد يقاربه ، فيقال اعتباراً بترك عرض الدنيا ، والعِفَّة تقال اعتباراً بحبس النفس عن الشهوات ، ويتلازمان . تفسير الراغب .
والأصحّ أنّ العِفَّة ليست مختصّة بالقوّة الشهويّة فحسب ، بل تشمل القوّة الغضبية أيضاً ؛ فمن العِفَّة الكفّ عن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ، والكفّ عن الدماء حبس للنفس عن الاستجابة للغضب ، والتمادي مع مقتضاه .. وتختلف العِفَّة قوّة وضعفاً بحسب قوّة الإيمان وضعفه ، لأنّها من مقتضيات الإيمان وثمراته ..
وحقيقة العِفَّة لا تجعلها خاصّة بالكفّ عَنِ المَعصِيَةِ ، وَالعِصمَةِ عَنِ التَّعَدِّي فحسب ، بل هي كفّ من جهة ، يتبعه إقدام إيجابيّ من جهة أخرى لفعلِ الخير ، والاستجابةِ لدواعي المُروءة .. لأنّ النفس المُؤمنة إذا ألجمت عن الشرّ انبعثت فيها دواعي الخير ، كالفرس الأصيل إذا تحرّر من قيوده ، لم يحل بينه وبين السبق شيء ..
وحقيقة التقوى تسمو بهمّة صاحبها إلى معالي الأمور ، وهي خوف رادع ، يقطع كلّ رغبة في اقتراف المَحظور ، وفي ذلك يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله : « الخوف إن لم يؤثّر في العمل فوجوده كعدمه ، مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابّة ، وإن أثّر فله درجات بحسب ظهور أثره ، فإن لم يحمل إلاّ على العفّة ، وهي الكفّ عن مقتضى الشهوات فله درجة ، فإذا أثمر الورع فهو أعلى . وأقصى درجاته أن يثمر درجات الصدّيقين ، وهو أن يسلب الظاهر والباطن عمّا سوى الله تعالى ، حتّى لا يبقى لغير الله تعالى فيه متّسع ، فهذا أقصى ما يحمد منه ، وذلك مع بقاء الصحّة والعقل ، فإن جاوز هذا إلى إزالة العقل والصحّة فهو مرض يجب علاجه ... بأسباب الرجاء حتّى يزول ... وكيف لا يكون الخوف فضيلة .؟! وبه تحصل العفّة والورع والتقوى والمُجاهدة ، وهي الأعمال الفاضلة المَحمودة ، التي تقرّب إلى الله زلفى .؟ » . إحياء علوم الدين (4/156) .
والصوم من أهم العبادات لبناء التقوى في النفس ، لمَا أنّه في حقيقته يربّي المُؤمن على قوّة الرقابة لله عزّ وجلّ ، فلا يبالي بنظر الناس وكلامهم ..
ولقد خصّ الله تعالى يوسف عليه السلام بجمال الصورة ، وجمال الباطن .. فجمال الصورة أدّى إلى افتتان النساء به ، وجمال الباطن تجلّى في العِفَّة العظيمة ، التي كان عليها يوسف عليه السلام ، مع وجود دواعي الفتنة الكثيرة لوقوع السوء منه ، ولكنّ الإيمان ونوره ، والإخلاص وقوّته ، لا يشذّ عنهما فضيلة ، ولا تجامعهما رذيلة . فوقف جمال الباطن أمام فتنة الصورة والظاهر ، ممّا يدلّ على أنّ المَلكات والصفات النفسيّة للإنسان هي التي تحكم سلوكه وتوجّهه ..
وبذلك يَتبيّن لك لمَاذا سمّي يوسف عليه السلام يوسفَ الصدّيق ، فقد كان على الذروة العليا من العِفّة والتقوى ، إذ تعرّض لفتنة تزلزل الجبال ، ويسقط دونها أكثر الرجال ، وهي تكشف عن دخائلهم ، وتظهر حقيقة معادنهم ..
وكون يوسف الصدّيق عليه السلام في الذروة العليا من العِفّة والتقوى يتبيّن لنا من جملة أمور ذكرها الإمام ابن القيّم رحمه الله ، نلخّصها عنه في النقاط التالية :
« أحدها : ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المَرأة كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتّى إنّ كثيراً من الرجال يصبر عن الطعام والشراب ، ولا يصبر عن النساء .
والثاني : أنّ يوسف عليه السلام كان شابّاً ، موفور الشباب ، وشهوة الشباب وحدّتها أقوى .
والثالث : أنّه كان عزباً ، لا زوجة له ، تكسر شدّة الشهوة .
والرابع : أنه كان في غربة ، يتأتّى فيها للغريب ، من قضاء الوطر ما لا يتأتّى لغيره في وطنه ، وبين أهله ومعارفه .
والخامس : أنّ المَرأة كانت ذات منصب وجمال ، فالفتنة بها أشدّ ، والرغبة أتمّ ، وكلّ واحد من هذين الأمرين يدعو إلى الاستجابة لها .
والسادس : أنّها هي الراغبة فيه ، فلم تكن آبية ولا ممتنعة ، فإنّ كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها ، لمَا يجد في نفسه من ذلّ الخضوع ، والسؤال لها ، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حبّ ، كما قال الشاعر :
وزادني كلفاً في الحبّ أن مَنعت * * * أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
ومعلوم أنّ ممنوع مرغوب .. وطباع الناس مختلفة في ذلك : فمنهم من يتضاعف حبّه عند بذل المرأة ورغبتها ، وتضمحل رغبته عند إبائها وامتناعها ، ومنهم من يتضاعف حبّه وإرادته بالمنع ، ويشتدّ شوقه بكلّ ما منع ، ويحصل له من اللذّة بالظفر بالضدّ نظير ما يحصل من لذّة الظفر بعد امتناعه ونفاره .
والسابع : أنّها طلبت وأرادت ، وبذلت الجهد ، فكفته مؤنة الطلب ، وذلّ الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة ، وهو العزيز المرغوب إليه .
الثامن : أنّه كان في دارها ، وتحت سلطانها وقهرها ، وهي السيّدة ، وهو العبد في ظاهر الأمر ، فهو يخشى ، إن لم يطاوعها ، من أذاها له ، فاجتمع عليه داعي الرغبة والرهبة .
والتاسع : أنّه لم يكن يخشى أن تفضح أمره هي ، ولا أحد من جهتها ، لأنها هي الطالبة والراغبة ، وقد غلّقت الأبواب ، وأحكمت الأمور ، وغيبت الرقباء ، وهيّأت كلّ أسباب الإغراء والإغواء .
والعاشر : أنّه كان مملوكاً لها في الدار ، فهو يدخل ويخرج ، ويحضر معها ، ولا ينكر عليه ، وكان الأنس سابقاً على الطلب ، وهو من أقوى دواعي الافتتان ، كما قيل لامرأة من العرب : ما حملك على كذا ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد (أي الليل) ، أو السهاد .
تعني : قرب وساد الرجل من وسادتها ، وطول السواد بينهما ، أو السهاد .
الحادي عشر : أنّها استعانت عليه بصاحباتها المَكر والاحتيال ، فأرته إياهنّ ، وشكت حالها إليهنّ ، لتستعين بهنّ عليه ، فاستعان هو بالله عليهنّ ، فقال : {... وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } [يوسف:33] .
الثاني عشر: أنّها توعّدته بالسجن والصغار ، وهذا نوع إكراه ، إذ هو تهديد ممّن يغلب على الظنّ وقوع ما هدّد به ، فيجتمع داعي الشهوة ، وداعي السلامة ، من ضيق السجن والصغار .
الثالث عشر : أنّ الزوج لم يظهر من الغيرة والقوّة ما يفرق به بينهما ، ويبعد كلّا منهما عن صاحبه ، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف : {... أَعْرِضْ عَنْ هذا }[يوسف:29] ، وللمرأة : {واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ } [يوسف: 29] ، وشدّة الغيرة للرجل من أقوى المَوانع ، وهنا لم يظهر منه أيّة غيرة .
ومع هذه الدواعي فقد آثر مرضاة الله تعالى وخوفه ، وحمله حبّه لله على أن اختار السجن على الزنى ، فقال : {... رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ .. } [يوسف : 33] ، وعلم أنّه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأنّ ربّه تعالى إن لم يعصمه ، ويصرف عنه كيدهنّ صبا إليهنّ بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربّه وبنفسه .. » .
فيا أيّها الشباب ! ويا أيّتها الفتيات ! ليكن لكم من نبيّ الله يوسف الصدّيق عليه السلام نموذجاً لعفّة النفس ، وجمال التقوى ، وقوّة العزيمة والإرادة ، وعلوّ الهمّة ، بما يرقى بكم معالي الأمور ، ويحول بينكم وبين منزلقات الفتن ، وتفاهات الدنايا ، والله يتولانا وإيّاكم بتوفيقه ورعايته .
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة