حقيقة الاستقامة.. في حَياة المسلم؟
كتب بواسطة الشيخ عبد الله العمر
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1826 مشاهدة
وردت كلمة الاستقامة بلفظها في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع، وفي موضع رابع مشابه لإحدهم..
الأول في سورة هود في قوله تعالى:فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (سورة هود: 112).
والخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد به أن يا محمد استقم على دين ربك والعمل به، والدعوة إليه كما أمر ربك.. وهل لأحد أن يقول لخير من وطأ الثرى على هذه الأرض استقم وهو خير من استقام، ولكن لما كان الخطاب من الله تعالى وهو أعلم بعبده ورسوله فالمراد به المداومة على هذا الأمر حتى يأت الوعد الحق. وهو الأمر الذي شيب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلقد روى القرطبي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: (شيبتني هود). فقال: (نعم) فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: (لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت).
نعم إنها الاستقامة التي شيَّب الأمين بها خير البشر، فما بالك بالحال بِنَا نحن عامَّة البشر؟
ونأتِ إلى الآية الثانية التي تكلمت عن حال من اتصفوا عند نزول المنية بهم والخروج من الدنيا بالجمع بين الإيمان والاستقامة، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (سورة فصلت:30); فمثل هؤلاء تبُشّرَّهم ملائكة الرحمة التي تتنزل عليهم وهم في سكرات الموت وكشف الحجب عنهم وتقول لهم ما حكاه القرآن ألا يخافوا ولا يحزنوا وأن يبشروا بالجنة الموعودة لهم.
وهذه الآية الكريمة لها وجه مشابه تماماً في الحديث النبوي; عن أبي عَمْرو، وَقِيلَ: أبي عَمْرَةَ، سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِاللهِ الثّقَفيِّ رضي الله عنه قَال: قُلْتُ: يا رَسُولَ الله، قُلْ لي في الإِسْلاَمِ قَوْلًا لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَال: "قُلْ: آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ"؛ رواه مسلم.
والسؤال هنا لما قال الحديث (ثم استقم) بدل واستقم مع قوله (قل آمنت بالله) وما موضوع ثم هنا؟! .. والجواب هو أن الإيمان لا يُمكن العمل بموجبه تلقائياً بل لا بد من وجود فسحة في الأمر.
وهذه الفسحة ليست بمثابة فصل بين الإيمان والاستقامة أو العمل بأحدهما دون الآخر.. وإنما ما ينبغي إيضاحه هو أن الإيمان ليس لفظاً باللسان ولا حيلة بالكلام، بل هو وكما جاء في الأثر عن الحسن البصري أنه قال: ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل،
والحديث يعني فيما يعينه أن يقل العبد آمنت بالله بلسانه ثم يعمل بموجب هذا الإيمان الذي أطلقه بما يوافقه من الاستقامة العملية.
وللاستقامة طريقة ينبغي لإهل الحق أن يكونوا عليها حتي ينالوا ما أسمته الآية بالماء الغدق الفياض في قوله تعالى (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16] ) ولنا أمثلة وشواهد على من كانوا على هذه الطريقة قال ابن إسحاق-رحمه الله-: "وحدثنى يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث: أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة (1)، بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي: كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر مالا أطيق. فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه فيه أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته. قال: ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا) [المغازي: (1/ 284 - 285 سيرة ابن هشام]
وهي الطريقة نفسها التي سلكها مؤذن الرسول بلال الحبشي رضي الله عنه الذي تمسك بالاستقامة على الطريقة في لظى حر الظهيرة والحجارة الثقيلة على صدره على أن يكفر بالله الواحد الأحد ويذكر آلهة القوم ، وهو يقول: (أحد أحد)..
ولقد استقام أبا بكر رضي الله عنه على هذه الطريقة في كل مشاهد حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ؛ عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقتُه يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: ((يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلِكَ؟))، قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله، قلتُ: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا! (سنن الترمذي)
ولا بدّ من القول هنا ونحن نتكلم عن الاستقامة وأهلها أن الاستقامة عين الكرامة، وهو ما يعني ألا يغتَّر أحد بما يظهر على أحد من الناس بشيء من خوارق العادات مما تسمى كرامات وبينها وبين الفسق والسحر ما لا يمكن تفريقه إلا بعرض أعمال صاحبها على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وإلا فهي أعمال الفُسَّاق فلا يغتر بهم، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: " وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ".
جعلنا الله وإياكم على الطريقة السوية وعلى الاستقامة الكاملة حتى نلقى الله وهو عنا راض، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة