الملحق
بالرغم أنه في ريعان شبابه، قويُّ البنية، ضخمُ الجسم، مفتولُ العضلات، إلا أنه يبدو صورةً حية لاجتماع الحزن والأسى، وتراكُم الكآبة والبؤس، إن منظره ليُدمي القلبَ، ويُبكي العين، ويُحزن النفس، إن تَعدد جراح جبهته التي أغرقتْ وجهَه بجداول من دماء، وتلك النظرات التائهة بين الانكسار والحقد، لا تفارقني حتى في أحلامي، من يكون هذا الذي يدعى "مُتعبًا"، والذي حضر قبل أيام معدودة إلى قسم الأمراض النفسية؟
بينما كانت الأخصائية الاجتماعية "فادية" تستحضر صورة متعب، وهي تدون ملاحظاتها، وإذ بفتاة شابة حسناء تقطع عليها صمتَها الحائر، وتطلب رؤية متعب.
اضطربت "حسناء" من سهام نظرات فادية، وبعد لحظة صمت سألتْها بريبة:
هل لك به صلة قرابة؟
• نعم؛ أنا أخته.
نظرت فادية لحسناء نظرة تفحص، وقالت:
الهُوية الشخصية لو سمحتِ.
أحسَّت حسناء بجفاف لهجة فادية وصرامتها، لكن ذلك لم يمنعها من إثبات هويتها بثقة تامة.
رفعت فادية حاجبيها ودققت النظر في حسناء، وقرأت بصوت مرتفع: حسناء الأحمد، ثم سألت:
أنت شقيقته لأمه وأبيه؟
• لو سمحت أريد أن أرى أخي.
أحست فادية أن عليها الانصياعَ لطلب حسناء دون تأخير، فقامت مسرعةً وسارت مع حسناء في ممرات المستشفى المستقيمة، بينما كانت أفكارهما المخبوءة تدور في حلقات دائرية مغلقة غامضة.
كان حديث نفس فادية عبارة عن تساؤلات حول رزانة أخت متعب وقوة شخصيتها، بالمقارنة بشكله الذي يوحي بأنه قادم من أدغال موحشة، والتقارير تفيد بحدوث صدمة نفسية عنيفة تعرَّض لها، وحدَّثتْ نفسها قائلة:
إنني أكاد أجزم بأنه معتوه، وإلا لماذا يضرب رأسه بالجدران، حتى يدمي جبهته؟! وكيف يهجر الطعام والشراب أيامًا؟! وما مبررات بكائه الساعات الطوال، وهو يرتعد ويرتجف ويهذي بعبارة: لا، لا، هذه أمي، وتلك أختي، ثم يقترب من النافذة ويتأمل الأفق، وبعدها يدندن ثم يضحك ضحكات هستيرية، ويمدُّ ذراعيه كأنه يرى أحدًا ويقول: ها هي قد أقبلتْ، كم أحبها، إنها ثروتي الوحيدة في هذه الدنيا، ثم يلملم شتات نظراته من صفحات الأفق، ويعود بطيء الخُطى وهو يضحك؟! كلما تصورتُه أكاد أقدم استقالتي قبل أن أصبح، أنا المهددة بالجنون!
أما حسناء، فكانت تحدِّث نفسها قائلة:
رغم كل الظروف، وكل الذي قيل وسيقال، فأنا لا يمكنني نسيان الأيام الجميلة التي قضيناها معًا، ولا أستطيع تجاهُلَ المواقف المشتركة التي كانت لنا، وهل يمكنني نسيان تلك الشخصية الصامدة التي روت ربيعنا؟! لا، لا يمكنني الاستغناء عنه أبدًا، لا بد من صِلته ومعرفة أخباره.
انتبهت من حديث نفسها على صوت فادية تقول لها:
تفضلي، هنا يوجد متعب، ما أن سمعتْ حسناء الخبرَ حتى سرى الدمُ حارًّا في عروقها، فبدتْ مضطربةً وجلة، خاصة عندما أبصرتْه لأول وهلة، فلم تكد تعرِفه وهو على شكله المخيف.
الْتقت نظراتُ متعب بنظرات حسناء، كانت نظراته مزيجًا من الدهشة والفرح والرجاء، وكانت نظراتها مزيجًا من الشفقة والحزن والرثاء، ترقرقت الدموع في عينيهما، وقام متعب يركض تجاهها صائحًا: أختي، أختي، لا تتركيني يا حبيبتي، وضمَّها إليه، وأخذ يبكي بكاء الأطفال على كتفها، بكاء امتزج فيه النحيب، واللوعة، والخوف، والحرمان؛ مما جعل جميعَ من في الغرفة يبكون لبكائه، ويتأثَّرون لحاله، فأخذتْ حسناء تتمالك نفسها، وتربت على كتفه وتقول: اطمئِنَّ، اطمئن يا أخي، فلن أتركك بعد اليوم.
أمسَك متعب بيد حسناء وأجلسها جوار النافذة، متأملاً وجهها الوضيء، وبدأ يحدِّثها عن حاله وهي تذرف الدموع.
في هذه اللحظات بدا متعب في نظر فادية شابًّا طبيعيًّا متمتعًا بكامل قواه العقلية؛ مما أوقعها في حيرة شديدة، جعلتْها تتذكر تشخيص الأطباء: حالة تعرُّض لصدمة نفسية شديدة!
منذ تلك الزيارة وفادية تسجِّل ملاحظاتها، وتدوِّن تقارير الأطباء حول حالة متعب الصحية والنفسية، والتي أظهرت تحسنًا مضطردًا، وبعد شهر أخبرت فادية حسناء بإمكانية خروج متعب من المستشفى؛ بناءً على توصية الأطباء: إنه بإمكانه ممارسة حياته العادية بين أهله وذويه.
ارتعدت حسناء للخبر واضطربت؛ مما أدهش فادية، فسألتْها:
ألم تكوني بانتظار هذا اليوم بفارغ الصبر؟
• أجابت حسناء: بلى؛ ولكن...
عندها طلبت فادية من حسناء أن تحدِّثها عما يشغل قلبها؛ لتسجل ذلك في ملف متعب؛ لأن هذه الأمور تهم مستشفى الأمراض النفسية؛ تحسبًا لتغيرات مستقبلية مفاجئة.
ترددت حسناء بادئ الأمر، لكن فادية أخبرتها أنها عرفتْ أخبارًا متضاربة من بعض المتطوعين من الزائرين، وأردفت:
نحن هنا نحب أن نعرف الحقيقة؛ لنقدم مساعدة حقيقية!
أخذت حسناء نفسًا عميقًا، وبدأت حديثها:
كان عمري ثلاث سنوات عندما علمت أنني أصبحتُ أختًا لطفل صغير جميل اسمه متعب، عشنا طفولتنا معًا تحت سقف واحد، أنا وهو ووالدي ووالدتي، كبِرنا معًا وكنا نذهب إلى المدرسة إلى أن بدأت المرحلة الثانوية، حيث توقَّدتْ أفكارنا، وتوسَّعت آفاقنا، وبدأنا نفهم تصرفات من حولنا، وأحيانًا كانت تصرفاتهم تتركنا نهمًا لأسئلة كبيرة متلاحقة، كان والدانا يعيشان في غموض وتعتيم كاملين؛ فلا يحق لنا أن نعرف كيف يفكران؟ أو أين سيذهبان؟ أو متى سيعودان؟ ما الذي يشغلهما؟ ما الذي يفرحهما؟ كنا نعيش معهما حياة حسن الجوار، ولم نكن أنا أو متعب نعرف عنهما الكثير؛ غيرَ أنَّا كنا نسمع تعليقاتٍ متناثرةً من هنا وهناك.
فسألتْ فادية: مثل ماذا؟
مثل: أنتما غير متشابهين، كما أنكما لا تشبهان والديكما، إنكما تبدوان من عائلتين مختلفتين! وأذكر ذات مرة أنني كتبت اسمي واسم أبي وجدي بدقة، فابتسمت إحداهن وقالت بسخرية: هل أنت متأكدة تمامًا من اسمك يا بنت؟! المهم أن والدي قد كبِر، وأخذ المرض يدب في جسمه النحيل، ولم يعد قادرًا على متابعة شؤونه التِّجارية والمالية، ولم يجد له عونًا سوى متعب، فطلب منه ترْك المدرسة، كان متعب يحب المدرسة، ومن الطلبة المتفوقين في غالبية المواد، فكان من الطبيعي أن يرفض هذا الأمر، تبخَّرت رغباتُ متعب أمام إصرار الوالد وموقف الوالدة المتفرجة.
لم يكن أحد يصدق أن متعبًا ترك المدرسة بسبب رغبة الوالد، وهو الطالب الناجح الذي أصبح على أعتاب المرحلة الثانوية، كانت هذه المواقف بداية الصدام الحاد بين متعب والوالد، كنا نتعرض لتراشق الأسئلة ونيرانها أحيانًا، خاصة من جدي لأبي وبعض الأعمام الكرام.
أما أنا، فكنت أقول له: إن كنت تظن أن مستقبلك الدراسي قد تطاير، فحاول يا أخي أن تثبت نفسك في أعمال الوالد التجارية، وكان ذلك بالفعل؛ إذ بدأتْ أعمال والدي تزدهر وتتطوَّر، بينما كانت صحتُه تتدهور، وبدأت آمالنا أنا ومتعب تتبلور، أحلام شابة، وطموحات كثيرة، خاصة أنني لم أترك مقاعد الدراسة.
أثناء هذه الفترة عقد أحد الشباب قرانه عليَّ، وبينما كنا نجهز للزفاف، إذ بمرض الوالد يشتد حتى كانت تلك الليلة، ليلة أفقت فيها على سعاله الشديد المتكرر، وصوته المتهدج، وبكاء أمي، تسمَّرتُ في سريري ولم أكن أجرؤ على السؤال؛ فأنا أعلم جيدًا أنني قريبة غريبة، قلقي دفعني لإصغاء السمع، ومنعني من الحركة والذَّهاب حيث ينام متعب.
سمعتُ ليلتَها كلماتٍ هزتْني من الأعماق، وخلخلت كل شيء من حولي، مسكينة أنا، أنا لست ابنتهم، هل أنا ابنة أسرة فقيرة لجأت إلى الملجأ بعد وفاة والديَّ؟ أأكون من تلك البلدة البعيدة، وتكون خالتي تلك المسكينة التي كانت تزورني، ومتعب ليس أخي؟ هذه هي الحقيقة التي سمعتها من الذي كان يدَّعي أنه والدي، ما زال صدى كلماته تقرع قلبي، وهو يخاطب المدعوة أمي بقوله: أما متعب، فإنه لـ... لـ... واشتد سعاله.
توسعت حدقتا فادية وبدت في غاية الاهتمام، ودونت كلمات حسناء حرفيًّا، ثم قلبت ورقتها وسألت: وماذا عن متعب؟
أمر متعب لم أعرفه بعد وفاة الوالد - رحمه الله - فقد كان ذاك الحديث هو آخر عهده بالكلام، بعدها اشتد مرضه، وفي ضحى اليوم التالي ودَّع دنيانا.
رثيت الذي كان أبي، وبكيت على نفسي، وانهالت عليَّ جيوش تساؤلات حول متعب، أهو أخي؟
وانهال علينا المعزون، أقصد المتطوعين والنسابين، وسمعت همسات مثل: ستشرق الحقيقة، لا يمكن تغطية الشمس بغربال!
وقول أخرى: متعب حاله يقطع نياط القلب، أليس له نصيب من تعب السنين وعرقها؟
فسألتْها واحدة: لماذا؟
فابتسمت الأولى ابتسامة صفراوية وقالت:
أهذا جهل أم تجاهل؟! إنه ليس بوارث يا حلوة!
لقد كانت عيون النساء تفيض بالحديث، وألسنتهن تبوح بمفاتيحه، وأوحتْ لي بعض التعليقات أنها ألغاز، وغيرها بدا حلولاً لألغاز سابقة كانت مستحيلة الحل، ولن أنسى قول إحداهن:
لِمَ الحزن على متعب؟ فقد يكون ابنًا لأحد المشهورين والشهيرات! وربما يكون ثمرة لقاء بين أبطال طال غيابهم وانتظرهم الجمهور، من يدري؟! قد يكون ثمرة لحظةٍ صفَّق لها الملايين فور ظهورها على الشاشة الصغيرة في منتصف الليل!
أمسكت رأسي وطأطأته، فقد طار صوابي في كل اتجاه.
لكن جدي أسرع خطاه الواهنة، ووقف بقامته المنحنية أمام متعب الذي أنهكه التعب، وقال: متعب أيها الملحق، اسمع مني ولا تحزن مما سأخبرك به، مثلك يا متعب تجهد ألوفُ الناس للحصول عليه بأغلى الأثمان، أنت ابن أبطال مشهورين في هذه الدنيا؛ لكنهم في الحقيقة (...)، هكذا علمتُ من المرحوم، متعب يا ولدي، أنت محروم قانونيًّا من الميراث، لكنا سنعطيك ما تجود به أنفسنا، متعب لقد أصاب أصحاب الملجأ حين سمَّوك متعبًا؛ لأنك ستتعب في بحار الحياة المتلاطمة، متعب يا ولدي لا تحزن، أنت ابن من صفَّر الجماهير له، وصفقوا لحظة أن كتبت له الأنفاس، أنت الذي سيدفع ثمن أفراح الملايين، ويُحرَم البسمة، وربما تكون ثمرة دواء شبيه بدواء جديد قدم إلى بلادنا، اسمه... اسمه... لا أذكر جيدًا؛ ولكنه قريب من كلمة فاجرة، يا متعب، لك الله، لك الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن