التَّذكير.. لما في الدِّين من تيْسير.
لقد خصَّ الله تعالى دينه الحق، الإسلام، بالكثير من المزايا والعطايا، وفيها الوسطيَّة والتَّيسير في الأحكام الشرعيَّة، والآداب المرعيَّة.
بحيث تميَّز هذا الدين الحنيف عن سائر الأديان والمِلل والنِّحل، بأنَّه دين اعتدال وتوسُّط في أمورٍ ذهبَ أهلُ الأديَان الأخرى فيها جانبًا من الشَّطط والغلوِّ في غير محله، وذهبَ آخرون منهم جانبًا مقابلًا من التفريط والتساهل إلى درجة فقدَت فيها الكثير من الأحكام الشرعية غايتها وفقدَ أهلها حُسن الصِّلة بها.
ولقد أدخل النَّصارى في دينهم ما ليس منه من الرَّهبانية التي ابتدعوها وقمَّصوا عُبَّادهم بها، وما رَعَوا الحدود والحقوق فيها، فانقلبَت عليهم وأردَتهم فلا عادوا منها بدِين سليم ولا دنيا.
قال تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} [الحديد،27].
وأما اليهود فقد أخذوا بدينهم جانبًا دنيويًّا خالصًا حتى أضحَت التوراة عندهم ملهاة، يجمعون فيها التحريف والتبديل والتساهل إلى درجة من الابتذال حتى لم يعدْ من الحقِّ فيها إلا ما يشبه الآثار على الرِّمال.
وبين الرهبانية والنصرانية، والإباحية اليهودية، جاء الإسلام مترفعًا عمَّا قد سقط فيه القوم، فلا رهبانية في الإسلام، والحديث الصحيح يقول: ((رهبانية أمَّتي الجهاد في سبيل الله))، ولا مسَّ بمقام الأنبياء ولا قدَح في عصمتهم، ولا تشريع للبشر يمنع إقامة الحدود وإخضاع النصوص لأهواء أصحاب التّلمود..
إنَّ الإسلام دين يُسر في توحيده وفي عباداته وفي أخلاقه. فهو دين الفطرة، ولا يحتاج المسلم إلى كثير عناء حتى يعرف ربّه بلا وسيط من بشر. ومن باب الشهادتَين يدخل المسلم إلى كل أركان الإسلام فيجد الرخصة مع العزيمة ((وإنَّ الله يحبُّ أن تؤتَى رُخصه كما يحبُّ أن تؤتى عزائِمه)).
وتتجلَّى الأخلاق في أبهى صورها في الوصايا النبوية ومنها ((يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا))، و((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)).
وإنَّ كتاب الله تعالى عزَّ وجلّ ليشهد على يُسرِ دين الله، فيه سورة جمع الله تعالى فيها عُسر ويُسرَيْن، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول في تفسير قوله تعالى إنَّ مع العسر يسرا: ((لن يغلبَ عسر يُسرَيْن)).
ويسَّر الله تعالى لرسوله أمر التعامل مع القرآن المنزَّل عليه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة].
يسَّر سبحانه لعباده التعامل مع كتابه ذِكرًا وحفظًا فقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر]. وقال عزَّ وجل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر].
فأمَّا تسهيل الذِّكر في القرآن فنجده في يُسر تلاوته على من يسَّره الله عليه، وليس ثَمَّة كتاب؛ غير كتاب الله لو أعاد القارئ له السورة ألف مرة، لما شعر بملل وكسل أو أصابه هم أو وَجَل..
وأمَّا الحفظ الذي يسَّره الله لأهل القرآن من هذه الأمَّة في الصدور قبل السطور فله خصوصيته، فلقد قال موسى عليه السلام لربِّه وهو يناجيه والألواح بين يديه (يا رب إنِّي أجد في الألواح أمَّة أناجيلهم في صدورهم، فاجعلهم أمَّتي قال هم أمَّة محمد)، صلى الله عليه وسلم.
وقد يسَّر الله لعباده في كتابه العزيز عندما جاء النسخ في بعض الأحكام ليكون رحمة ورفعًا للحرج عن الأمَّة قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة].
وقد شُقَّ على أصحاب رسول الله ما سمعوه من كلام الله في آخر سورة البقرة: {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة].
وكيف لهم أن يحتملوا السؤال مثل الأمم السابقة عمَّا تحدثّهم به أنفسهم، فجاء اليُسر بالنَّسخ بآية بعدها {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ولقد كان رسول الله مثالًا يحتذى في سنَّته القوليَّة والعمليَّة، في التيسير على نفسه، وعلى أمَّته. ومن أدلة ذلك ما رُويَ عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضيَ الله عنها: ((ما خُيِّر رسول الله بين أمرَيْن إلَّا اختار أيْسرَهما ما لم يكنْ إثمًا)).
وقد يسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته عندما قال لمعاذ رضي الله عنه: ((أفتَّان أنت يا معاذ، من أرادَ منكم أن يؤمَّ الناس فليخفِّف فإنَّ فيكم الضعيف والمريض وذا الحاجة)).
وفي حديث آخر ((إنَّي أريدُ أنْ أطوِّل في الصلاة، فأسمع بكاء الصبيِّ، فأخاف أن أشقَّ على أمِّه)).
وهذا مما ذكرناه غَيْض من فَيْض من أمر اليُسر والتيسير في دين الله، والذي جاء به الإسلام في كل أحكامه بلا تكلُّف ولا تشدُّد وتنطُّع بل برفق وتيسير.. ولا يكن ذلك متأتِّيًا، إلَّا بأن يكون الدُّعاة إلى الله أسْوَة للناس ينهلون من المنبع النبويِّ الذي قال فيه صاحبه رسول الأمَّة: ((إنَّ الله رفيقٌ ويحبُّ الرِّفق قي كلِّ شيء))، و ((إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ)). وقال للرَّجل الذي أخذته منه الرَّعدة والخوف يا هذا خفِّف عليك فأنا ابن امرأة كانت تأكلُ القديد (اللَّحم المجفَّف).
إنَّ اليُسر باب من أبواب الدَّعوة إلى الله، وإنَّ الغلوَّ والتشدُّد في غير مكانه، هما من أبواب التَّنفير للناس من سماع دعوة الحق. ولا بدَّ من مراعاة كل ذلك مع عدم التساهل في قول الحق فلا يكن إفراط ولا تفريط.
والله الهادي إلى الحق وإلى سواء السبيل والحمد لله ربِّ العالمين.
المصدر : الشيخ عبد الله العمر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن