المهزومون روحيّاً
{وتلك الأيام نداولها بين الناس}. {سورة آل عمران: 140}.
هي سنّة الله في خلقه؛ يجعل قوماً في مكان الرفعة والعلوّ، ويمكّن لهم، ويسلّطهم على قوم آخرين، ويجعل الأقوام الأخرى في درجات من السلّم الحضاري دون ذلك؛ حسب حكمته سبحانه وإرادته وقَدَره. فإذا شاء سبحانه، واستدار الزمان، تبدلت مواقع الأقوام، فارتفع قوم فوق المنزلة التي كانوا عليها، وهبط آخرون.
وسنّة الله لا تحابي أحداً؛ فمن أخذ بأسباب القوة والنهوض وهبه الله ما استحقه، ومن حاد عن ذلك فقد تخلّى عن دوره التاريخي، وسلبه الله ما كان أعطاه إياه في حقبة سلفتْ. {كُلّاً نُمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك. وما كان عطاء ربك محظوراً}. {سورة الإسراء: 120}.
وكل قوم في إبّان قوتهم وعلوّهم شجعان، يرفعون رؤوسهم وأصواتهم، وسيوفهم كذلك. كما أن الانكسار في ميدان المعركة يلحقه انكسار في النفوس والمعنويات، ومن هنا كان إعجاب الناس بالمنتصر، ونزوعهم إلى تقليده في أحواله وأموره، واجتهادهم في التماس الأعذار لسقطاته وعوراته:
والناس من يَلْقَ خيراً قائلون له ما يشتهي، ولامِّ المخطئ الهَبَلُ
هذه السنن تعمّ الأفراد والأمم؛ لكنّ أثرها يختلف من فرد لآخر، ومن أمة لأخرى، وذلك حسب تفاعلها مع سنن أخرى كذلك من سنن الله.
فالتاجر الكبير قد يخسر في صفقة أو صفقات، ويضيع ثروته كلها أو معظمها، ويناله بذلك شعورٌ بالحسرة والضعف، لكنه لا ينسحب بالضرورة من السوق، ويعلن إفلاسه، ويستسلم لليأس؛ بل يذكر تجاربه الناجحة التي بنى عليها أمجاده، فيعزم على مواصلة الطريق واستعادة ما خسر، عبر صفقات جديدة.
وقد عاش المسلمون في الأجيال الأخيرة حالة الانحسار والهزيمة أمام المدّ الغربي بأشكاله المختلفة: الملحد والعلماني والصليبي والصهيوني.. وأحسوا بالقهر والاضطهاد على أيدي أصحاب هذا المد، وعلى أيدي أذنابهم وأزلامهم من أبناء جلدتنا كذلك، وقد كان الأمر طبيعيّاً لو وقف عند هذا الحدّ؛ لكنّ بعض المسلمين قد نفضوا أيديهم من كل جهد، وقلوبهم من كل أمل، وراحوا يردّدون بيأس وإحباط وذلّة:
"إنه لا خير فينا البتّة، ولا إمكان لنهوضنا إلا على طرائق أهل الغرب، ولا معنى لحضارة إلا باقتفاء خطى الغربيين في كل شيء.. فاللغة الراقية هي الإنجليزية، ولئن تكلمنا العربية فلنحصرها في لغة البيت والشارع.. بل ينبغي أن نطعّم لغة البيت والشارع بكلمات إنجليزية تضفي عليها رونق الحضارة.. أما لغة العلم، ولغة المؤتمرات، ولغة المعاهدات.. فلا بدّ أن تكون إنجليزية صرفة"..
"وطرائق الحياة الخاصة في المطعم والملبس والزيارة والضيافة.. هي طرائق أمريكا وفرنسا والسويد.. وما سوى ذلك فتخلّفٌ ونكوص".
"والوضع الصحيح للمرأة في المجتمع هو وضع المرأة الغربية".
"وإذا تصرّف مديرٌ عندنا تصرّفاً حدّيّاً فهو مستبد فردي، لا يعرف أصول الإدارة، ولا ينسجم مع الروح "الديمقراطية".. وإذا صدر عين هذا التصرف عن مدير في الدول الاسكندنافية فهو التصرف المسؤول الحازم الذكي"..
"وإذا أردت أن تعرف مدى الرقيّ والحضارة والتمدّن والصواب في أي علاقة اجتماعية، أو موقف سياسي، أو تصرّف شخصي، أو معيار أخلاقي.. فالمرجع في ذلك ما عليه الناس في أوروبا (وأمريكا)".
"وربما تمنّى هؤلاء لو أن الإسلام لم يشرع الجهاد أو تعدد الزوجات أو قطع يد السارق.. لأن هذه أمور يستنكرها الذوق الغربي".
هؤلاء الذين يقولون مثل هذا ينسَون أنهم من أمّة هي خير أمة أُخرجت للناس، رفع الله شأنها بكتاب عزيز {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد}، {سورة فصّلت: 42} وهداها إلى العقيدة الحق والتصور الكامل السديد، والشريعة العادلة الغراء التي تنتظم شؤون الحياة كلها، وتضع كل شيء في نصابه الصحيح، وتحمل السعادة لمن اتبعها..
هؤلاء ينسَون أن أمتهم كانت سيدة العالم قروناً عدة، وأن سيادتها تلازمت مع التزامها بدين الله، كما أنها كانت تضعف وتنهار وتصير في ذيل القافلة كلما ابتعدت عن هذا الدين.
إن التغنّي بما كانت عليه هذه الأمة أيام الفتوح والنصر لا يجدي شيئاً بذاته، بل قد يكون كالمخدّر للمتواكلين والقاعدين.. لكنه تذكرة لمن أراد أن يتذكر، وهو إحياء لتاريخ مجيد يعيد الثقة إلى نفوس المهزومين الذين لا يرون من الصورة إلا لقطة عابرة تمثل التراجع في الآونة الأخيرة.
بل إن نظرة موضوعية لما عليه المسلمون في فترة ضعفهم هذه، تؤكد أن عناصر القوة والخير والفاعلية كامنة في هذه الأمة، عميقة الجذور في بنائها، لا تفتأ تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها. وما مظاهر الصحوة الإسلامية التي تملأ السمع والبصر، وتُقلق أهل الباطل، وتقضّ عليهم مضاجعهم، إلا من ثمرات الخير العميق في الأمة المسلمة.
إن الذين بلغ بهم شعور الهزيمة مبلغاً عظيماً ليكادون يرون في الصحوة الإسلامية ذاتها مَظْهَر تخلّف وهزيمة.. فهم ينظرون إلى ما يقع فيه الإسلاميون من أخطاء، وما ينسب إليهم كذلك من أخطاء، وما يساء فهمه من طروحاتهم.. مع أن هذا نتيجة متوقعة لحركة بعث جديد لأمة متميّزة.. في ظل تسلّط شامل لأهل الباطل على مقدّرات الأمور، في مرحلة عُلُوّهم.. فقد تحكّموا بالمال والاقتصاد والتربية والإعلام، وزينوا الباطل، وسفّهوا الحق، وقربوا الخائن، وأبعدوا الأمين، ورفعوا الرّوَيبضة، وشوّهوا مناهج التربية والتعليم وبرامج الإذاعة والتلفاز.. وتأثر بذلك أبناء المسلمين حتى انسلخ منهم من انسلخ عن دينه، وأحسّ بعضهم بالخزي والعار من انتمائه لهذا الدين ولهذه الأمة.. وضعفتْ ثقة بعضهم بربّه ودينه..
الأمر يحتاج إلى وعي بحقيقة الذات، وقراءة لسنن الله في الأنفس والآفاق، ومعرفة بتفسير التاريخ والأحداث..
ويحتاج قبل هذا كله إلى عودة إلى الله، وتعميق للإيمان به سبحانه، واقتباس الهدى من مشكاة النبوّة.
{ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريباً}، {سورة الإسراء: 51}.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة