أضاعوك وأي فتى أضاعوا
نعم، كلا، لا، لا...
تبعثرت كلماته، وكأن صوته يخرج من بئر سحيقة القرار، وقد أخذ الصراع النفسي يأكل قلبَه الغض.
كان المحقق يصغي السمع للفتي "نجيب"، مُصَوِّبًا نحوه نظرات نارية، منذرة بفنون التهديد والتعذيب، ثم أصدر أمره الحازم:
• عد إلى غرفتك وإلى جدرانك الصماء، وستدرك جيدًا أنك تضرُّ نفسك بتبديل أقوالك.
سار المحقِّق خارج غرفته بضع خطوات، وإذ به أمام رجل في عقده الخامس، قد كسي من الوقار والاتزان حللاً، حاملاً بيده أوراقًا، طلب تسليمها للفتى "نجيب".
فحص المحقِّق الأوراق بسرعة، ونظر إليها بتعجب ظاهر، ثم رفع رأسه وقال مخاطبًا الرجل:
• إذًا؛ نجيب من الطلبة الممتازين، وفي المرحلة المتوسِّطة كما يظهر من شهاداته المدرسية، مَن تكون حضرتك؟
أجاب الرجل بتأثر بالغ:
• أستاذ وموجه في مدرسته منذ تسعة أعوام تقريبًا.
• حسنًا، هل يمكنني طرح بعض الأسئلة؟
• تفضل.
• ماذا تعرف عن نجيب؟
زفر الأستاذ زفرة عميقة، جالت في رحاب الأسى، وقال بثقة بالغة:
• نجيب أيها المحقق طالبٌ يقطر الأدب من كلامه، ويرتقي المعالي بأخلاقه، إنه رقيق الإحساس، شفيف المشاعر، نادر المثال، تتمازَج إبداعات عقله بإشراقات روحه، فكان يقدِّم لنا أعمالاً مدرسية رائعة.
• هل لاحظتم عليه ما يريب في سابق أيامه؟
دارتِ الكآبة في محيَّا الأستاذ، وقال بتأسف ظاهر:
• أقسم أننا (كهيئة تدريسية) لم نلحظ على نجيب سوى ما يدعو للفخار والرفعة، والشموخ والعزة، كان يغذي سفوح آمالنا إذا أجدبتْ لمرأى الأجيال أمامنا، كان الأمل والعزاء، كان ثمرة العطاء، صمت الأستاذ قليلاً وهو ينظر للأفق، ثم أكمل:
• هل تصدق أننا جميعًا في حيرة بالغة؟! لم نصدق حتى أثبت لنا أنه متهم، مسكين، كيف أصبح متهمًّا؟ ما هي الظروف التي قتلته؟ شيء عجيب، شيء...، وغادرت الكلمات مرفأها لفترة، ثم قال:
• أتسمح لي بزيارته؟ لم يستطع المحقق منْع الأستاذ من زيارة طالبه الأثير، قال لنفسه: "قد تبدِّد هذه الزيارة بعضَ الغيوم، وتفسِّر شيئًا من الأحداث".
ما أن رأى نجيب أستاذَه الوقور أمامه حتى نهض مصافحًا خجلاً، وقد بدا منكمشًا كسيفًا، قد غادرت الابتسامة محيَّاه، وذهبت الآمال من مقلتيه، وقبل أن ينطق الأستاذ بهمسة، أحس نجيب بوابل الأسئلة تمطره، وأنه يقف تحتها مرتديًا أثوابًا شفافة خفيفة مهترئة، وتذكر أن "الحقيقة لا تغطَّى بغربال"، كما علمه أستاذه الفاضل.
ودّ لو يتطاير رمادًا ليعود محمولاً مع ذرات الغبار، وينعم في فصله الدراسي بين زملائه وأمام أساتذته؛ لكنه خاطب نفسه: "قاتل الله القسوة والغلظة، والبُخل والجفاء، وسامح الله الأثرياء الذين لم يلتفتوا إلى أمثالنا".
وأحس بيدي الأستاذ الحانيتين تربتان على كتفه؛ لتطمئن وجيبَ قلبه:
"نجيب، أضاعوك وأي فتى أضاعوا!".
نجيب، ولدي الحبيب، أصدقني وأخبرني، كيف دخلتَ سراديب الضياع، ومتى أصبحت تلهث خلف الأفاعي والذئاب؟ نجيب ولدي، كيف؟!
ومد الأستاذ يدين مرتجفتين؛ لتمسح دموعًا حرَّى انهمرتْ من عيني الفتى، فرأى الأحزان قد نسجت سترًا، بدا نجيب فيه حزينًا ذاهلاً دامعًا، وبعد أن هدأ روعه، رفع حاجبيه، وطار إلى الأفق، حيث كان يستمع إلى حديث أمه وشكواها المتواصلة، فالعمل قد ضاق على والده، وقبل أن تثمر غرسات الوالد، انقطع شريان الماء، فجفت الأزاهير والبراعم، لم يفكرْ أحد بالإسعاف الأولي أو المبدئي، جميع من حولنا يركضون خلف عرباتهم التي تحمل "رياشهم"، ربما رمى أحدهم لنا شيئًا من فتات مائدته، أو قمامات أدواته، مغطاة بنظرات الشفقة والرثاء، ومختومة بعبارات المنِّ والأذى.
تحملت أمي وتحمل جميع الأهل جبالَ هموم الفقر، لكن أخي الذي كان يدرس في الخارج، وقد اقترب من نيل شهادة عالية بتقدير مشرف، لم يرحَمْه أحد مِن عباد الله، فكاد أن يقطع دراسته، ويبتر آمال أمي، وأحلام أبي، وتحرم العائلة جميعها من أكل ثمرة واحدة، قد تحمل غراس ثمرات قادمة".
صمت نجيب قليلاً، ثم أردف بصوت حزين: "أكلتنا الفاقة يا أستاذ"، الغذاء الذي يمد به الأغنياء الفقراء، سام مدمِّر، غير ذاك الذي تمدنا به دروسك يا أستاذ.
حاولت الهرب من الذل والكآبة، والحزن والآهات والدموع، التي استعمرت حياتنا الأسرية، تجولت في الشوارع ليلاً ونهارًا؛ بحثًا عن هواء نظيف ينعش كياني، فأنعشني هواء الليل، ولفحتني شمس النهار، وتعرفت إلى أصحاب وزملاء، تماسكت وشائجنا، وعلقت آمالنا على سفوح همومنا، وهمس لي أحدهم: هل تبحث عن إسعاف وإغاثة؟
أجبتُ بحماس: أجل، أجل.
• إذًا أخبر أهلك أنك ستعمل منذ الليلة القادمة في شركة لتوزيع البضائع الضوئية، وهذه شركة لا تعمل إلا ليلاً!
تساءلت بلهفة: بمقابل؟
فأجابني بثقة وسرور: يبلغ مئات الدولارات كل ليلة!
• مئات الدولارات؟! كدت أرقص طربًا في ليلة حالكة، في شارع مظلم متشعب الأزقة، وحدثت نفسي: بغد غد فقط سأضع بلسم الإغاثة الأول بين يدي أمي؛ بل سأبرقه إلى أخي؛ ليكمل فصله الأخير، وأحمل الوصولات إلى أمي، سأُحَقِّق حلمها، وستتوقَّف أمواج الحزن التي فتتت قلبها، وسأغيث أنفاسها المتحشرجة، وسيثبت والدي قدمه المترجرجة، والمهم أن أخي سيكمل فصله الأخير دون مَنٍّ أو أذى!".
وانعقدت بنفس نجيب غصَّات حزن مرير، وأطبق أهدابه وغاص في بحار ضياعه بصمت مريب، لكن الأستاذ سأله، وقد زارت الشكوك قلبه وعقله الفطن:
ما هي حقيقة البضائع؟
"هذا ما أحطت به علمًا عندما أحاطت الشرطة بيتنا ليلاً، وتم الفصل الأخير يا أستاذي"؛ (فقد ثبت أن البضاعة التي لا تحتمل الضوء، هي التي تقتل النور في قلوبنا، إنها المخدرات).
ماجت الدنيا بناظري الأستاذ، واستوطنت الآلام سراديب أحاسيسه، واحتوى نجيب بيديه وهو يقول: إلى متى ستبقى جرائم المجتمعات المادية تلطخ شوارعنا المضيئة؟!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن