تحت الأنقاض السحيق والأمل بالله الوحيد
للحظات خَلت لم أجدْ نفسي، وأنا في السوق أشتري بعض الأغراض للبيت، إلا وقد تحوّلت من أن أكون فوق الأرض إلى تحتها من نور الشمس الساطعة إلى ظلمات قاتمة تحت دركات من الحفر العميقة.
ماذا جرى حتى أصبحت هنا وقد كنت لهنَيهات قليلة أسرح وأمرح وأتنفس الهواء العليل؟ إنّ الأمر كله كان عبارة عن غارة جوية من سلاح العدو اليهودي الغادر جعلني أنا وكثير معي تبتلعنا الأرض في جوفها بعد أن كنّا على ظاهرها لحظات ضعف قاتلة أحسستها وأنا تحت الثرى لا أرى أصبعًا من أصابع يدي أو قدمي.
يا الله ما هذا الذي أنا فيه لقد تلاشى كل أمل عندي بالنجاة، والعودة للحياة، هذا أقل ما يمكن أن يتخيله من كان في مكاني وهو لا يرى إلا حفرًا وأتربة، وكومات من التراب تغطي بدني وتكاد تصل إلى عنقي ولكن أين فعل الإيمان الذي ينبغي أن أكون عليه؟ وأين أنا من الذين ابتلاهم الله وهم أنبياء؟ وأين أنا منهم؟
لقد ابتلع الحوت نبيًا من الأنبياء وهو يونس عليه السلام، وأصبح في ظلمات ثلاث في بطن الحوت المظلم، وبطن البحر المعتم وبطن الليل القاتم، أليس في ذلك شبه مما أنا فيه؟ وإن اختلف المكان والزمان، لقد أتاني وأنا في هذه العتمة الحالكة أطياف من الأمل الذي لا يجده إلا من كانوا من أهل الإيمان، وأرجو الله أن أكون منهم.
وتذكرت كم أنني محتاج إلى أن أدعو ربي بما دعا به صاحب الحوت يونس بن متى، أو ما سمّاه كتاب ربي بذا النون (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، لقد جاءت بعده فورًا فاء التعقيب (فاستجبنا له ونجيناه من الغم..)، هو فقط لا (وكذلك نُنجي المؤمنين).
هكذا أكملت الآية وتذكرت كم أني جوّدتها، وحاولت أن أترنّم بمعانيها، والناس حولي في العزاء مستمعون خاشعون، إنني الآن تحت الأرض أتلوها ولا يسمعني إلا الله وحده، إنني أقرؤها في عزائي الذي أستعد له في وقت ليس ببعيد، إنه صعب أن تموت، وأصعب منه أن تنتظر الموت يأتيك على قدميْه وصدق الله (وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ).
ولم أجد أمامي، وأنا في هذا الظلام المهيب إلا ترداد دعوة يونس عليه السلام، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لقد أصبحت هي تسليتي، وعزائي وأنا في وحشتي، ووحدتي القاتلة، حيث لا دبيب ولا حتى صرير في الأعماق وبقيت أردد تلك التهليلة والتسبيحة، والاعتراف بالذنب ألوف المرات تلو الألوف فما الذي جرى لقد طرق مسامع أذني أصواتًا خافتة، وحركات الأقدام البشريه تدبّ فوق رأسي استبشرت خيًرا، وأحسست بنور الأرض يقترب مني لينير عليّ ما قد أفسده قعر بطن الأرض يومين متواليين.
حيث شعرت فيهما بحقيقه ضعفي، وعجزي وأنّه ليس ثّمّة قوة تخرجني مما أنا فيه إلا قوة العزيز الجبار، لقد انشقت الأرض ورأيت أيديَ بيضاء تمتد لتنشلني من رقدتي الطويلة، وتعيد إليّ الحياة ليس بقدرة منها، وإنما بقدرة من يحيي العظام وهي رميم.
لقد وجدت نفسي في أرض بلدي وبين أحبتي، وأنّ لي عمرًا مديدًا بعد أن كنت في عداد الموتى في أغوار الثرى، حيث لا صديق ولا قريب، وحيث لم يبق من الأمل إلا أمل وحيد، لو أيقَن به الناس يقينًا صادقًا لما شعروا وهم في بطن الأرض عما كانوا في ظاهرها بفرق شاسع بعيد.
كان هذا حلمًا أفقت منه، وسألت الله وأنا في فراش ناعم وثير أن يمنّ برحمته ولطفه مع من هم حقيقة في أرض الجهاد في فلسطين، قد نزلوا شيبًا وشبابًا وأطفالًا إلى قعر الأرض، وأصبحوا في باطنها بفعل قصف عدوهم وعدونا جميعًا وعدو الإنسانية، بيوتهم الآمنة وهم في مضاجعهم راكدين وأصبحوا على حين غرّة في أعماق التراب راقدين.
إنّ الذي كتب عليهم الشهادة ربّ العزة والملكوت، ولسوف يجعل لهم في تربتهم التي رقدوا فيها يتنفسون فيها ريح المسك الأذفر، وسوف يضيء عليهم من أنوار قدّوسه الأنور ما لم تساويه شعاع الشمس في وضح النهار الأبهر.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!