من مشاهد الذلّ والعزّة في جهاد أرض غزّة
لقد كان من أسماء الله الحسنى المتعاقبة الذكر، اسمَيّ المعزّ المذلّ، وقد فسّرت آيات قرآنية كثيرة حقيقة هذا العزّ الإلهي، ولمن يهبه الله تعالى بنفحات وبركات، ولمن ينزعه منه ويذلّه بقدرته العليّة. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقد اختصّ الله سبحانه بالعزّة لنفسه، ومنح منها لرسوله وللمؤمنين فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وفي ختام الآية تصويب على أهل النفاق بعدم علمهم عن صفة العزّة ومن هم أهلها.
ما يدل على أن أكثر الناس بعدًا عن فقه معنى العزّة ، إنما هم من مردوا على النفاق وأنهم يتقدمون على الكفار في ذلك وسر ذلك يعلمه الله أولًا.
ولكنّ الاستنتاج المتواضع في تعليل ذلك: بأنّ المنافقين يكمن سر نفاقهم في أيديهم المرتجفة وعقولهم الزائغة وقلوبهم المريضة، ومن يكن أمره كذلك لا يمكن له أن يرتق إلى عتبة أهل العزة، فضلًا عن أن يصل إلى أعلاها وبناء على ما تقدم قوله، فإنّ لنا مشاهد قديمة في تاريخ الأمة الإسلامية، تدل على أن الناس كانوا وما زالوا بانقسام إلى فريقين أحدهما حمل في نفسه العزة وربّى أولاده وأحفاده عليها، وفريق قد جبلت نفسه على الذل والجبن والخوار.
وأصبح أسيرًا لها غير منفكّ عنها، ولنا مثالين في ذلك لكلا الفريقين: الأول مثال أهل العزة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين قالوا لرسولهم بكل ثقة واقتدار، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها. {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن نقول لك اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.
وأما الفريق الثاني: وهم من المنافقين المتخلفين، فهم من سرد القرآن صفاتهم ومقالهم {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، وبناء على هذا التقييم لهذين الصنفين، فإنّنا يمكن لنا المقارنة اليوم في حرب الجهاد في أرض فلسطين، وفي مقدمتها غزة هاشم المباركة، حيث إنّ الحدث على أرض الوغى، والجهاد قد كشف أصناف الناس ومعادنهم، وأبان المتقدمين منهم والمتخلّفين.
الصنف الأول وهم أهل العزّة قد أخذوا زمام المبادرة، وضربوا العدو الغاصب في عقر داره، وأذاقه بعضًا من كثير مما ينتظره من الإذلال والأسر، والقتل، ويومها فرح المؤمنون بنصر الله بعد أن مضت أكثر من سبعين سنة ونيف من الاحتلال الجاثم على الركاب والرؤوس والذي لم يترك جريمة إنسانية أخلاقية إلا واقترفها من إبادة وتخريب وتقتيل وترويع وأسر والتعذيب، والعالم المسمّى زورًا وبهتانًا (العالم الحر)، يمارس عدله المزعوم على كل بقعة من بقاع الأرض، وهو عما في أرض الإسراء والرباط من مذابح تكاد لروعة الأحداث فيها تخال من الخرافة، وهي صدق ومع ذلك كله فهو يدافع عن الكيان الغاصب، ويعطي له كل المبرّرات ليمارس بآلة القتل الجهنمية كل ما يشيب لهوله الولدان من قتل، بلا وزن تمييز ولا ميزان.
وظهر في حرب الجهاد المبارك في غزة الفريق الثاني: المتخلّف إما بالتثبيط للهمم والانحناء للعدوّ، حتى القدم ولسان حاله يقول دعونا نعيش بأمن وسلام، وما لنا بالحرب، وليكن بيننا وبين أولاد عمنا اليهود (المظلومين المسالمين)عهد أمان، وهذا ما حدث عملًا لا قولًا وهرول أكثر الساسة، والقادة من ملوك العرب، وأمرائها يحنون الرؤوس والجباه لمجرمي الكيان الإسرائيلي الغاصب، بالزيارات والسفارات والهدايا والسهرات، وكان ما أصاب ويصيب الشعب الفلسطيني المسلم ،والغزاوي منه تحديدًا لا يعنيهم، وكأنّه يجري في جزر القمر.
إنّ هذه المعركة المباركة كشفت كثيرًا من الوجوه المقنّعة، والتي استمرأت الخيانة وأصبح الذلّ لها شعارًا، والحياة الذليلة تحت الحذاء الأميركي واليهودي لها وقاية وخيارًا.
ومما يعجب له هنا المرء ويحتار، ومنذ مطلع الألفية الثانية هذا الخمود، والركود في حركة الشعوب العربية المسلمة، والتي كانت تنزل بالملايين في الستينيات والسبعينيات نصرة لبلد مسلم مقهور، أو احتجاجًا على احتلال بلد عربي مسلم، ونحن هنا نسأل أين بلد الأزهر؟ الذي أنجب سعد زغلول وغيره من القادة الفحول، وهو بلد المئة مليون مما يجري في أرض فلسطين من تخريب، وسحل وتهشيم.
وأين بلد المليون شهيد في الجزائر؟ وأين بلد عمر المختار في ليبيا؟ وأين وأين؟؟ إنّ الذي يبرر ذلك الصمت المطبق المريب، لا يعدو كونه ذلك التجويع، وإشغال الناس بمعاشهم وقوت يومهم، مما يجعلهم في إعراض عن النزول للساحات، ورفع الصوت بنصرة الحق وأهله، إضافة لتغيير النفوس، وغلبة المصالح الشخصية في ما يحكم الأفراد والشعوب.
إنّ الحكام المتسلطين على رقاب البلاد، والعباد، عليهم القسط الأكبر في التقصير، بحق قضايا الأمة، وفي مقدّمها فلسطين. سوف ينالهم من تمييع قضيّتها وتحويلها إلى قضية مساومة في بازار البيع والشراء الرخيصة، أقول سوف ينالهم من لعنة الله والشعوب والتاريخ ما يجعلهم بعيدين كل البعد عن أن يستحقوا شرف حمل قضية، أعطى الله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخر أخذ مفتاح مسجدها الأقصى، وأعطى لصلاح الدين الأيوبي الكردي المسلم، شرف تحرير بيت المقدس من رجس الصليبيين.
لقد شرف الله أهل غزة شيبة وشبابًا، بكرامة لم ينلها غيرهم في العصر الحديث، جمعت بين العزة والنصر، فإن هم انتصروا، وهذا وعد الله الذي لا يخلف وعده لعباده المؤمنين، فهم قد نالوا العزة بنصرهم.
وإن هم استشهدوا عن آخرهم فهم شرّفوا العالم بأنهم دفعوا ثمن صمودهم، يوم أن خذلتهم أمتهم، وأغمضت عيونها عنهم، وأنّ نصر الله لقريب، كأننا نراه قادمًا برأسه الشامخ العالي من بعيد.
ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة