شَهرُ رَمَضان من الاستعداد إلى التغيير وتجديد الحياة
حقائق كبرى عن العِبادات:
العِبادات سِرّ السعادة وتجديد الحياة.! والله تبارك وتعالى يربّي عباده ويتعبّدهم بما يشاء.. بالسرّاء وبالضرّاء.. وبالمَنع وبالعطاء.. وبالفعل وبالترك..
وهل هناك أشرف، وأعلى وأجلّ من أن يتعرّف المُؤمن على ربّه، ويتقرّب إليه بما يحبّ ويرضى.؟! وأيّ سعادة أتمّ من ذلك.؟! وليس سوى ذلك إلاّ الضياع والشقاء.
والغَاية الكبرى للصيام هي التحقّق بالتقوى، وهي ما خُتمت به الآية الأولى في فرض الصيام: {لَعَلَّكُم تَتّقُونَ}. كما خُتمت به الآية الأخيرة للصيام: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
والتقوى بمراتبها هي سلّم تحقيق العُبوديّة لله عزّ وجلّ.. ومراتب التقوى والمُتّقين لا تقف عند حدّ، فهي تبدأ من دخول الإسلام بقول: لا إله إلاّ الله، ثمّ الترقّي في مدارجها ومراتبها، علماً وعملًا، وحالًا وذوقًا، بما يسمو بالمُؤمن في آفاق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وتقوى الله تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ هُوَ أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُخشى حقّ الخشية، وهوَ ما كان عليه حال السلف حتّى كأنّ النار لم تخلق إلاّ لهم، كما قال عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري رحمهما الله: (ما عاشرت في الناس رجلاً أرقّ من سفيان الثوريّ، وكنت أرمقه في الليلة بعد الليلة، ينهض مذعوراً ينادي: (النار! النار! شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات)، وقال قبيصة: (ما جلست مع سفيان مجلساً إلاّ ذكرت المَوت، وما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه). وما للترقّي في مراتب التقوى انتهاء..
وقال التستري عن حَقّ التقوى: « حقّ التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قبل نفسه ولا ينقص.. هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه، وأمره على وجهين: على وجه الحتم، وعلى وجه الندب، وكذلك القول في النهي على قسمين: تحريم وتنزيه، فيدخل في جملة هذا أن يكون حقّ تقاته أولًا: اجتناب الزلّة، ثمّ اجتناب الغفلة، ثمّ التوقّي عن كلّ خلّة، ثمّ التنقّي من كلّ علّة، فإذا اتّقيت عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتّقيت حقّ تقواك.. وحَقّ التقوى رفض العصيان، ونفي النسيان، وصون العهود، وحفظ الحدود، وشهود الإلهيّة، والانسلاخ عن أحكام البشريّة، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كلّ جرم وظلم، واستشعار الآنفة عن التوسّل إليه بشيء من طاعتك دون صِرف كرمه، والتحقّق بأنّه لا يَقبل أحدًا بعِلّة، ولا يَردّ أحدًا بعِلّة.
وإذا تحقّقت التقوى في حياة العبد جُمع له الخير من أطرافه، وحُفظ مِن كلّ شرّ وفتنة في أحواله وأوصافه، ولم يزل في سداد من الله تعالى وتوفيق..
وحديث القرآن عن التقوى شامل لكلّ حياة الإنسان وعلاقاته، ولجميع مناحي الحياة وتشعّباتها، وهذا ما يعزّز مكانة الصيام المِحوريّة الشاملة في التربية والتهذيب.
ولا قيام لشريعة الله تعالى في الأرض إلاّ بإقامة العِبادات بحقائقها وآدابها، والتربية عليها، لأنّها الأصول الحكيمة والقواعد السليمة، التي يقوم عليها بناء الفرد والمُجتمع: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] ..
الاستعداد النفسيّ والعَمليّ لرمضان قبل دخوله.؟
إنّ أحسن الاستعداد لاستقبال هذا الشهر المُبارك هو الشوق لنفحات الله تعالى وبركاته وعطاءاته العظيمة لعباده، واستحضار المُؤمن نيّات كثيرة في العمل الصالح، يَعزم عليها، ويحرص على فعلها فإذا عَجز عنْ بعضها كتِب له أجرها بفضل الله وكرمه..
وما أحسن الشوق حاديًا إلى العمل، مهوّنًا على المُؤمن مَشَقّة العمل ونصبه!..
ويتلخّص الاستعداد النفسيّ في النقاط التالية:
1 ـ تعلّق القلب بالله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوّة، وسؤاله التوفيق والقبول .
2 ـ التحقّق بصدق النيّة، والإيمان والاحتساب:
وعندما تتحقّق بالاحتساب لله جلّ وعَلا فإنّه ينسحب إلى جميع أعمالك، ويصبح ديدنك أن تشهده مع كلّ عمَل، وكفى بذلك تحقيقًا للإخلاص في أعمالك وإراداتك، كما أنّ الاحتساب يدعوك إلى التفكير بيوم الحساب، وأن تضعه نصب عينيك..
3 ـ تحديد الأهداف، وترتيب الأولويّات، وتنظيم الوقت.
4 ـ محاسبة النفس على ما مضى، وتجديد التوبة، وكثرة الاستغفار: وردّ الحقوق إلى أصحابها، والتحلّل من المَظالم.
وخيرُ ما يُستقبل به رمضان ومَواسم الطَّاعات «التوبة وكثرة الاستغفار»، لأنَّ الذُنوب تحرمُ العَبد التَّوفِيق.. ومَا أَلزم عَبد قلبه الاستِغفَار إلَّا زكىٰ وارتقى، وإن كَان ضَعيفًا قَويَ، وإن كَان مَريضًا شُفيَ، وإن كَان مُبتلًى عُوفيَ، وإن كَان مُحتارًا هُديَ، وإن كَان مُضطربًا سَكن واطمأنّ.
5 ـ تطهير القلب من الغلّ والحسد، والعفو عمّن ظلم، والحرص على سلامة الصدر..
ومن أروع صور العفو والتسامح، ما أثنى به النبيّ ﷺ على بعض أصحابه، إذ قال: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأبي ضمضم، كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قد تصدقت بعرضي على الناس».
6 ـ وينبغي أن تكون خطّتنا لرمضان مكتوبة أمامنا، لتكون لها الأولويّة المُطلقة في أعمالنا، وأن نحذر كلّ الحذر ممّا يخرّبها أو يفسدها.
ولكي ننتفع من الصيام أتمّ انتفاع لا بدّ لنا أن نضع لأنفسنا أهدافاً نحرص على تحقيقها؛ فما أهدافك في رَمَضان.؟
تتلخّص الأهداف المُقترحة لبرنامج رمضان في ثلاث كلمات:
التجديد، والتغيير، والتوثيق: تجديد الإيمانِ، وتغيير بعض العادات، وتوثيق العلاقة بالقرآن.. ولا تتأتّى هذه الأمور الثلاثة إلاّ بوضوح الأعمال لتحقيق ذلك، وهو ما يتحقّق من خلال البرنامج المُقترح لتنظيم الوقت والاستفادة منه..
أمّا تجديد الإيمانِ فيكون: بالتحقّق بالصوم إيمانًا واحتسابًا، وذلك بإخلاص النية في الصوم، واستشعار حقائق التقوى، والحديث عنها يطول ويطول.. ورقابة الله عزّ وجلّ فيه، والتحقّق بآداب الصيام عامّة..
وأمّا تغيير العادات: فهو باب من أبواب السعادة وتجديد الحياة..
فكيف يتمّ للصائم ذلك.؟!
اختر ثلاث عادات سيّئة، أنت مُبتلى بها، وقرّر التخلّص منها في رمضان، مثلًا: ونأخذ ثلاث عادات لها أولويّة خاصّة، لكثرة انتشارها :
1.عادة تأخير الصلاة عن أوّل وقتها وعدم إتقانها، وتعريضها للضياع بالتأخير.
2. عادة السهر الطويل، وضياع الوقت فيما لا ينفع، وما يتبع ذلك من تقصير بالواجبات والمَسئوليّات ..
3.عادة قبيحة جدًّا وهي منتشرة انتشارًا كبيرًا، وهي الاشتغال بعيوب الناس، والغفلة عن عيوب النفس ومعالجتها.
4.ومن كان مُبتلى بالدخان فرمضانُ خير فرصة للتخلّص من هذه العادة السيّئة المُنكرة.. وأنا أعلمُ عدداً من الناس استطاعوا ذلك..
وأمّا توثيق العلاقة بالقرآن؛ فيتجلّى في أمرين:
الأوّل: الإكثار من تلاوة القُرآنِ، وأقلّ ذلك أن يتلو في رمضان ختمة واحدة.. وأوسط ذلك أن يتلو ثلاث ختمات.. وأكثره أن يتلو عشر ختمات، يختم القُرآنَ كلّ ثلاثة أيّام...
والأمر الثاني أن يجتهد في فهم القُرآنِ وتدبّره، والأحسَن أن يكون مع جماعة على رأسهم طالب علم مُتمكّن، فهَذَا أنفعُ في العلم، وأوثق في الفهم..
يَقولُ الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي رحمه الله عن أهمّيّة القُرآنِ في حياة المسلم: «هذا القرآن بما فيه من الحكم والأحكام، وبما فيه من الترغيب والترهيب، وبما فيه من رغائب الروح والجسد، وبما فيه من علومٍ وحقائق، وبما فيه من بيان حقوق الله على عباده، وحقوق العباد بعضهم على بعض، وبيان ما ضمنه لعباده من حقوقٍ، إلى غير ذلك ممّا اشتمل عليه.. نهايةٌ وكفايةٌ للناس في الاتّعاظ والاعتبار، بحيث لا يحتاجون إلى غيره في إصلاح نفوسهم وإعدادها للحياة السعيدة في الدارين». (الآثار ١/٣٩٩)
البرنامج المُقترح لرمضان:
1 ـ افتتاح شهر رمضان بالتوبة إلى الله تعالى بشروطها وأركانها، وتصفية القلب من الغلّ والحسد، ومسامحة من أخطأ معنا.
2 ـ إحياء ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ثمّ صلاة الضحى.
3 ـ تلاوة جزء من القُرآن صباحًا، وجزء ظهرًا، وجزء مساء، وبذلك يتحقّق للصائم تلاوة ثلاث ختمات للقرآن بكلّ سهولة.
4 ـ قراءة ثلاث صفحات على الأقلّ من تفسير مختصر للقرآن مع التدبّر، في هذه الأوقات، أو غيرها، حسب ما يناسب الصائم. وبذلك يتحقّق للصائم تدبّر خمسة أجزاء من القُرآن تقريبًا.
5 ـ المُحافظة على الصلاة في أوّل وقتها مع سننها الرواتب وآدابها وطمأنينتها..
6 ـ المُحافظة على صلاة التراويح مع الجماعة عشرين ركعة، أو إكمالها لنفسه كذلك، والإكثار من نوافل الصلاة خاصّة؛ من صلاة الضحى، والتهجّد في الثلث الأخير من الليل..
7 ـ الإكثار من الصدَقات؛ بعد أداء الزكاة المَفروضة، لمَن وجبت عليه، وأن لا يخلو يوم من صدقة، فرمضان شهر البرّ والإحسانِ، والجود والكرم.. وينبغي للمُؤمن أن يخصّص بصدقاته أقاربه المُحتاجين، ويعمّم على سائر المُحتاجين من المُسلمين..
8 ـ الإكثار من ذكر الله تعالى، من الاستغفار، وبخاصّة في وقت السحر والتهليل، والتسبيح، والصلاة على النبيّ ﷺ. وأقلّ ذلك ثلاث مئة من كلّ ذكر ..
9 ـ الإكثار من الدعاء، وبخاصّة قبل غروب الشمس، ووقت السحر، وتخصيص الوالدين وأموات المُسلمين بالدعاء، وسؤال الله الفرج عن المسلمين في كلّ مكان..
10 ـ وأخيرًا: الحرص على مجاهدة النفس على حسن الخلُق، وضبط النفس عند الغضب، فصيام رمضان بابٌ عظيمٌ لتحقيق ذلك، بدليل الحديث الصحيح: «... والصيامُ جُنَّةٌ، وإذا كانَ يَوْمُ صَومِ أَحَدِكُمْ؛ فَلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، (وفي روايةٍ: ولا يَجْهَلْ، فَإنْ سابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، (مرَّتَينِ).
مُلاحظة مهمّة: وإذا أردت أن تأخذ نفسك بالحزم والعزم، فاكتب مذكراتك عن كلّ يوم من رَمَضان في دفتر خاصّ، وحاسب نفسك يوميَّا على ما أنجزت، وما قصّرت وفرّطت.. فهذا أعون لك على تنفيذ البرنامج المُقترح والالتزام به.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وعلى الصيام والقيام، وغضّ البصر وحفظ اللسان، واجعلنا مِن عبادك المَقبولين المَرضيّين، ومِن عتقاء هذا الشهر الكريم، وأدخلنا الجنّة مِن باب الريّان بسلام، وانصر عبادك المُجاهدين في كلّ مكان، وارفع البلاء عن المُستضعفين، وأغثهم برحماتك، وَبالمَلائكة تقاتل دونهم، وعجّل بالفرج على عبادك. برحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولمَشايخنا وللمسلمين والمُسلمات. وصلّى الله وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
ضَوْءٌ لَمَعَ وَسَطَ المَدِينَة