تباشير شهر الصيام بين ما كان وما هو الآن
تعودت ألسنة الناس على الدوام بالقول (رزق الله على أيام زمان)، وهذا القول لا ينطبق على أمر محدد، كحديثنا عن شهر رمضان المبارك، الذي يطرق أبواب قدومه الميمون فقط، وإنما على أمور كثيرة، وأحوال عديدة، قد يكون بعضها دنيوي والبعض الآخر ديني أخروي، ولكنّ الرابط بينهما عظيم الذكريات الجميلة والتي يشكل رمضان الكريم أحد أبرز معالمه، وآثاره التي لا يمكن أن يمحوها الزمن، ولا أن تنمحي من الأذهان مهما تقدمت الأيام، واختلفت المفاهيم بين ما هو فات وما هو آت. وأنني أردت مما قدمت قوله أن يشاركني كل قارئ لمقالي هذا في بعض المواقف الجميلة واللطيفة التي مرت عليا في أكثر من عقدين من الزمن.
قصدت بهما فترة الستينيّات والسبعينيّات؛ حيث إن لشهر رمضان المبارك نكهة حضورلا يمكن وصفها، ولا حتى التعبير عن حقيقتها. حيث كان لنا ونحن صغار في المدارس أن نشارك أهل بلدتنا قصدت مدينة صيدا، فرحة إقبال الضيف العزيز وكانت الشوارع الرئيسية في المدينة تتزيّن بثوب مخملي من اللافتات، والرايات، وعليها مكتوب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة عن الصيام، ومعانيه فضلًا عن تنظيف الشوارع وإنارة المساجد، وتجهيزها لروادها من العابدين الصائمين لصلاة التراويح، والاعتكاف، وحضور مجالس العلم والوعظ والإرشاد.
كان الجو العام قبل حضور الشهر الفضيل يبعث فينا كبارًا وصغارًا أجواء من الخشوع، والرجاء وتطهير القلب من كل أنواع الكره والشحناء والتسامح، والصفح بين الأهل من الأرحام والعفو هو من شيم الكرام، فكيف إذا ما كان شهر الكرامات والفيوضات قادم على الأبواب، فهل نستقبله بمزيد من الحقد والضغينة؟ وإغلاق الأيدي عن السلام ونثر العطر في القلوب البيضاء والريحان.
كان حضور الشهر الفضيل يعني لنا الكثير والكثير من تغيير نظامنا في الجلوس مع الأصحاب للقال والقيل، وما قصدت بذلك المنهي عنه من الحديث، وما فيه من النيل من الناس بالسمعة، أو عما فيه تجريح وتمثيل فليس هذا مما تعودنا عليه، والحمد لله في كثير أو قليل، ولكن قصدت أن رمضان يشغلنا بأيامه وساعاته؛ بل حتى بلحظاته بما ينبغي اغتنامه من ألوان العبادة المختلفة، من تلاوة القرآن، وكثرة القيام، والبعد عن ترهات الحديث والكلام.
كانت للمآذن العالية دورها في إذاعة القرآن، قبل كل صلاة من الفجر وإلى كل ما يسبق نداء الآذان كنا نسمع، ونستأنس بتلاوة قرّاء الرعيل الأول من بلاد الشام، وأرض الكنانة حيث تصدح الحناجر بالتسابيح، والمدائح والأناشيد. كان كل شيء يوحي إلى من يسمعه أنك في رمضان ولست في شهر آخرغيره.
وإذا ما أردنا الحديث عن الطعام، والشراب الذي قد بارك الله فيه لأهله الصائمين؛ فإنك سوف ترى العجب العجاب من أطيب الطعام، والشراب مما لذ وطاب قد افترش الناس الطيبون البسطاء الأرض في بيوتهم، أو على أسطح منازلهم، وتجد الصغار قبل الكبار تغمرهم الفرحه والحبور وهم يجلسون في حلقات متقاربة، وبطرق عفوية لافتة لا تصنع فيها ولا رياء حيث تهبط الرحمة من رب السماء لتشارك المفطرين السعداء، موعد إفطارهم بعد نهار طويل من الصبر والعناء.
ثم يذهب الكبار والصغار صِبية وشبابًا، وفتية وفتيات محجبات، ونسوة معتمرات أردية سوداء وبيضاء إلى المساجد لأداء صلاة العشاء والتراويح، وتصبح المساجد كخلية نحل لا تسمع فيها إلا التلاوات والأدعية والابتهالات والمناجاة والبكاء على المآقي، والعيون تذرف من الخاشعين والمتبتلين بين يديّ رب السماوات.
وتعود الناس بعد صلاة التراويح للراحة، قبل أن تسمع صوت المسحراتي قبل الفجر بساعة، ويقف تحت كل حي وبيت سويعات، ينادي قوموا يرحمكم الله، وتسحروا؛ فإن في السحور رحمة وبركات.
ولا أنسى أنّ أمي رحمها الله، كانت تعمل لنا القطايف بالبهار، والزبدة وكنت أستمتع بمذاقها جدًّا قبل أن أرشف كوبًا من الماء لأُذهب لهيب حرها في الأفواه والأمعاء قبل أن يضرب مدفع الإمساك، يا لها ما أيام وليال مباركات وأذكر فيما أذكره قيامي كل صبح وكل مساء، حيث أتسمّر أمام الشاشات لتسجيل التلاوات من الفيديو للشيوخ الكبار الأجلاء من القراء النبغاء في مصر، بلد الأزهر ومن الراديو القديم عبر شريط الأسطوانات.
إنها متعة لا يجدها إلا من عاشها بالثواني، واللحظات حيث كنا مع جيراننا في الحي والشارع كأننا في بيت واحد، وأسرة واحدة كلها أخوة أشقاء نتبادل الطعام والشراب، وكل مقبلات الإفطار بلا حرج ولا استحياء، لأن الناس كانت من الطيب بمكان حيث تنعدم الحواجز، وتسقط السدود والقيود من كل من صام وقام ووحّد الحيّ الديّان.
ويجلس الأهل على مائدة الإفطار، والألسن تلهج بالدعاء بما علمنا عليه رسول الأنام صلّى الله عليه وسلم، من دعاء وتجد البركة تفيض من الزاد القليل، ولو كان خبز من شعير، لأن القلوب العامرة بالإيمان ومعاني الصيام قد أعطاها الله نفحات تغنيها عن الكثير من الأطعمة، والأشربة التي أعدت للإسراف والتبذير، إنها بركة الصيام حبات تمر وماء قليل، كأنك أكلت غذاء الملوك في قصر على ضفاف النيل.
ولما يقترب العشر الأواخر من رمضان تشد الرجال الرحال فالوقت أصبح قليل، وشهر الخير أذِن بالرحيل، ولا بدّ من التزود الكثير والكثير من الحسنات، والطاعات والصدقات قبل أن يقرر الضيف الغالي المسير إلى ربه، بأعمال العباد بلا تعجيل ولا تأخير، ولمّا تأت ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فلا يتأخر أهل البلد، والمدينة عندنا من التوجه زمرًا إلى المساجد لإحياء ليلة تتنزل فيها الملائكة من عند العزيز الجليل ويا سعد من اغتنمها، وأحياها وأكثر فيها الزاد لعلة لا يلقاها في عام آخر، ولعله يترك الدنيا وإلى ربه يصير.
إنها مجموعة ذكريات الماضي أحببت جمعها ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك الفضيل، ولا أريد بها أبدًا المقارنة بما وصلنا إليه من خلاف ما قدمناه إلى درجة أنه لولا الإعلان بالقدوم للشهر الميمون، تحسب أنه ليس في بلدك حطّ رحاله ولشهر تام بيننا سيكون، وأنا لست أقصد إماتة النفوس، وتغليب اليأس على حالنا فالله سبحانه جعل مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يسرين ورسولنا عليه الصلاة والسلام، قال: "الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة".
ولا بد من أن نبحث في الخيرية الموجودة، والتي هي من أسرار تميّز هذه الأمة عن باقي أمم الأرض، وأن رمضان المبارك لهو أكبر حافز ودافع في أيامه المباركة ولياليه، وما يجري في جوار بلدنا في أرض الأقصى السليب ودرّة عقده غزة هاشم من جهاد وكفاح، وتشبث بالأرض وحفظ الدين والعرض والهوية في وجه عدو قريب يهودي، وآخر منافق من جلدتنا وينطق بلساننا ويداري عدو الله بالصمت ويقعد عن نصره إخوانه وكأنه عنهم غريب.
من هنا نبدأ إحياء رمضان، بوجه جديد، وتاريخ للأمة مجيد، يبزغ أول طيف نور منه في أقصى القدس، وينجلي شعاع نوره الوهاج في نصر الله لمجاهدي غزة، صانعي فجر رمضان بثوب عزة جديد، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة