تفقدي قلبك
حين تأخذنا الحياة بلَهوها وشُغلها، وتمرّ الأيام تحصد أعمارنا وتُدنينا من مصيرنا المقدّر، لابدّ أن يقف الإنسان موقفاً يتأمل فيه حصيلة ما قدمه؛ يقوِّم أعماله ويصحِّح مساره. يبحث بين ثنايا كيانه عما يضمن له السعادة والنجاة والفلاح، فأين يلقاه وأين المفتاح؟
إن في الجسد مُضغة، ويا لها من مضغة.
إذا صلحت صلح الجسد كلّه!! وإذا فسدت فسد الجسد كلّه!!
صغيرة الحجم كبيرة الفعل؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار.. وما هي إلا مُضغة.
يحدّثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ألاَ وهي القلب». فما سرّ هذا القلب وكيف يرتفع بالجسد إلى الصلاح أو يهوي به إلى الفساد السحيق؟ وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاؤه: «يامقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك». فما سُمّي القلب قلباً إلا لأنه يتقلب بين الأحوال؛ فتارة يمتلئ إيماناً وخشيةً، وتقوى صلته بالله تعالى، وتارة تشدّه الدنيا وتنتابه الغفلات، فيبتعد عن الله تعالى ويغفل عن ذكره..
وهي حقيقة أكدها رسول الله سُمي القلب من تقلبه.
فكيف يضبط المرء قلبَه؟ وكيف يرتقي به ليتماشى مع شرع الله تعالى ويسير في ظلِّ الهَدي الإلهي؟
يوضح لنا القرآن الكريم أمراً وعلاجاً: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9] زكّى نفسه - التي تأتي بعنى القلب هنا - فحملها على الطاعات وامتثال أوامر الله، وزجرها عن المعاصي وإتيان ما نهى الله عنه. والمرشد في ذلك كله واضح جليّ كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا طُرق خَفية أو مبهمة: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، «فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين» رواه البخاري. فهل لقلبٍ أن يضيع ويضيّع صاحبه بعد نور الهدى الذي كَمُل بكمال رسالته - صلى الله عليه وسلم؟
وقد ذكر القرآنُ الكريم القلبَ في عدّة مواضع موضحاً أن القلوب تتفاوت بتفاوت أصحابها حسب توجيههم لها؛ فهناك:
القلوب الغُلْف: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88]؛ لقد أصروا على أن تكون قلوبهم مغلّفة، فلم ينزعوا عنها غلافها لئلا يلامسها الحق والنور الذي أتاهم به رسولنا - صلى الله عليه وسلم -. فهم كمن يُغمض عينيه لئلا يرى الحق، ويُصم أُذنيه كيلا يسمع الهدى!
القلوب القاسية: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74] ذلك أنهم رأوا الآيات الباهرات والمعجزات فأبَوا أن يعترفوا بها واستكبروا أن أتتهم من بشرٍ مثلهم.
القلوب المستنكرة: ﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: 22] أي لا تقبل الوعظ ولا ينفع فيها الذكر وهم متكبرون متعظّمون عن قَبول الحق.
القلوب اللاهية: ﴿ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 3] لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم.
القلوب الوَجِلة: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60] الذين يصلّون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون الله عز وجل. ولذلك كان جزاؤهم: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61] فجعلهم من السابقين.
القلب السليم: ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليماً ولسانه صادقاً ونفسه مطمئنة وخليقته مستقيمة وجعل أذنه مستمعة وعينه ناظرة; فأما الأذن فقمعٌ، والعين مقرة لما يوعى القلب، وقد أفلح من جعل قلبه واعياً» رواه أحمد.
• القلب المنيب: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 33] مخلص مقبل إلى طاعة الله; فيكون جزاؤه: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق: 34].
• القلب الرقيق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم في خطبته: «وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدِّق موفّق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» رواه مسلم.
أخواتي المسلمات: لنبحث عن قلوبنا ونطمئن على مسيرتها ونتعهدها بالرعاية والمراقبة. ورعايةُ القلب تكون عبر ريّه من مَعين الشرع الحنيف، وينبوع كلام الله ونهجه، وتزويده بالتقوى خير الزاد.. ولا بدّ أولاً وقبل كل شيء من ملئه بمحبة الله تعالى ورسوله، فإنه إن امتلأ بها لم يبقَ فيه مكان لحب الدنيا، ولم تسنح الفرصة للمعاصي أن تتمكن منه.
إنه القلب أيتها الأخوات؛ إذا صلح أو فسد كتب للعبد مصيره الأبديّ؛ فكيف لا يكون المقدَّم بالحرص عليه وتجنيبه الزلّات والويلات؟!
اللهم هذه قلوبنا بين يديك، فاغمرها يا رب بحبك وخشيتك، وجنِّبها يا رب القسوة والبُعد عنك، وحرِّمها يا رب على النيران، وأَسعدها يا رب برؤية وجهك الكريم.. اللهم أتيناك نقدم لك قلوبنا فتقبلها منا وأَسعدها بنفحاتٍ من محبتك تغمرها وتفيض في أرجائها. اللهم لا تحرمها لذّة حبك وطمأنينة رضاك.
اللهم آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن