د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السابع

تعرَّفنا فيما سبق على موقف القرآن من العقل ومكانته وقدره، وذلك كأول عنصر في بيان منهج القرآن التشكيلي العقلي العام، في إطار عمليته الإصلاحية التزكوية للإنسان، تأهيلًا له لمهمَّة الاستخلاف في الأرض كما يحب الله ويرضى. وفيما يلي نتعرف على العنصر الثاني الذي يتعلَّق بما يؤسِّس العقل في جذوره وفي قاع تفكيره، الذي نسمه بطابع الجمع والكلية، ونجعله بعنوان:
بناء التصور أساسًا للتصرف:
لمّا مُكِّن الإنسان من القدرات والملكات، التي أَمَّها العقل، ليتمكن من التصرف في تدبير شؤون الحياة وتسخير الكون، ليحقق مهمته "الخلافة في الأرض" وإصلاح الحياة وعمارتها وفق الهدي الرباني، فقد جعل سبحانه ذلك يتحقق على أساسٍ من تصور صحيح لهذا الوجود الذي يتعاطى معه، بما يمثله من اعتقادات ومفاهيم ثابتة. ذلك أن منهج القرآن الكريم في تفسير اختلالات أي واقع، أن يردها إلى خلل في التصورات والمفاهيم العقيدية.
لقد كان العمل الأكبر والأول للقرآن في منهجه التغييري والانتقال "من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي يقوم على إحلال مفاهيمه العقيدية عن الكون والإنسان والحياة. وعلى إذكاء جذوة التفكير والنظر لدى الإنسان، حتى يتمكن بهما من فهم هذه – العقيدة واعتناقها بعمق وأصالة. يقول الله تعالى: ﴿فَلۡیَنظُرِ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاۤءࣲ دَافِقࣲ * یَخۡرُجُ مِنۢ بَیۡنِ ٱلصُّلۡبِ وَٱلتَّرَاۤىِٕبِ﴾ (الطارق:٥-٧)، ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِي فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ (البقرة:١٦٤). هذه وغيرها من الآيات التي يحفل بها القرآن الكريم، تبيِّن أسلوب المنهج الإسلامي في صياغة الأفراد والجماعات، وفي بناء وتكوين الشعوب والمجتمعات. إنه الأسلوب الذي يبدأ بصياغة الفكر، وينتهي إلى صياغة الواقع في كل شؤونه وأحواله" [فتحي يكن، الاسلام والجنس، ص٦-٧].
أي أن القرآن يعتمد في إحداث التحوُّل في المجتمع وتصحيح الواقع على ما يسبق ذلك كله، وهو التحوُّل الذي يحدث في داخل الإنسان في عقله وفكره، وقلبه ووجدانه وروحه، وغرائزه وميوله، لتنتهي في خارجه لكي تصوغه إنسانًا جديدًا متفوِّقًا قادرًا على التغيير المطلوب في الواقع، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ (الرعد:١١)، سُنَّة الله في الحياة الإنسانية لا تبديل لها ولا تحويل.
ولا شك أن القرآن يحتوي على منهج تشكيلي للعقل الإنساني على نحو قويم ليجعله قادرًا على العطاء والعمل والإبداع. وقد تمثل واقعيًا في تلك التحولات الجذرية والتغييرات النوعية التي نفذها من قبل، فأخرج للناس ذلك الجيل الفريد الأول الذي يعتبر مثال الأمة الأعلى وقدوتها المتبعة، على رأسه الرسول الكريم ﷺ. ولن يصلح آخر هذه الأُمَّة إلّا بما صلح به أولها. [بين هذه التحولات بتفصيل د.عماد الدين خليل في كتابه حول إعادة تشكيل العقل المسلم، وأعاد تأكيدها في كتابه مدخل الى الحضارة الإسلامية].
والجامع لتلك التغييرات الجذرية جميعًا وأسُّها هو التحول التصوري الاعتقادي الذي منه تنبثق وتتفرع كل التغييرات المعرفية منها والمنهجية وغير ذلك.. التي نتناولها في المقالات اللاحقة كُلًّا على حدة بمختلفة الجوانب والزوايا.
-أ- التحوُّل الاعتقادي التصوري:
شكَّلَ ويُشكِّلُ تصحيح الاعتقاد المحور المركزي في عملية صياغة العقل المسلم؛ بمعنى "القدرة على رؤية الخطوط الإسلامية والمسارات الإسلامية متواصلة متكاملة متوازية لا يصطدم بعضها بالآخر لتأخذ بعدها بضبط وربط.. والقدرة على تكوين العقلية التي تمتلك أبجديات الثقافة الإسلامية فتحسن القراءة الإسلامية التي تستطيع من خلالها أن تفسر الظواهر الاجتماعية تفسيرا إسلاميا، وتصدر عن تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولا تقع فريسةً للتفسيرات غير الإسلامية، كما أنها لا تبقى مهوشة غير قادرة على التوازن والاعتدال". [عمر عبيد حسنة، مقدمة إعادة تشكيل العقل المسلم، ص١٠-١١]
ولا جدال في أهمية معرفة هذا التصور الاعتقادي وضرورته؛ لأنها المعرفة التي "تحدد فهم الإنسان فردًا وأمةً وجنسًا لذواتهم، ولمعنى وجودهم، وللغاية من هذا الوجود، وعلاقاته بالذات وبالآخر وبالعالم وبالكون في كل أبعاد هذا الوجود، ومآل هذا الوجود، فإن هذه الرؤية هي الجذور والتربة والمنبع الذي يمثل القوة الدافعة العقدية التي تحدد طبيعة القوة الوجدانية المحركة للإنسان وللمجتمع، والتي تحدد توجهاتهم وفاعليتهم، وترسم وجهة مسيرتهم في الحياة، ومدى قوة هذه المسيرة الإنسانية وفاعليتها الإعمارية الحضارية في الوجود والتاريخ" [أبو سليمان، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، ص٢٥].
كما أنها ضرورية في سياق العملية التربوية الإصلاحية للإنسان في أبعاده جميعًا؛ إذ لا بدّ أنْ تتأسَّسَ وتنطلق من معرفة النفس الإنسانية، وفهم الطبيعة البشرية بمختلف جوانبها وأحوالها، حتى يمكن الوصول إلى قاعدة معرفية متكاملة، ورؤى شاملة، تعين في توجيه وتقويم سلبيات هذه النفس وطبيعتها، وتعزيز ودعم إيجابياتها، انطلاقًا من ازدواجيتها وثنائيتها؛ إذ ركبت بقابليتيْ التقوى والفجور، الخير والشر: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس:7-١٠). [يراجع أحمد، الطبيعة البشرية في القرآن الكريم دراسة نفسية تربوية اجتماعية، ص١١].
وعليه، فإن أول لبنة يضعها القرآن في تشكيل العقلية القويمة وبناء التفكير السليم في جذوره وقاعه، لبنة التصور الاعتقادي الصحيح، أساسًا للسلوك في الحياة، وبناء نظامها ونمطها. فما مضمون هذا التصوّر؟ وكيف يتشكل العقل المسلم عليه من المنظور القرآني؟
يتبع...
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السابع
الدعوة لوحدة الأديان في ميزان الإسلام
جَوَّاد يوم عرفة.. تأثّرًا يما يجري في غزة
صراع الخير والشر أم صراع الشر والشر؟
خطر التفاهة على الأبناء