صفحة لا تُنسى من الإفك الأثيم

لوثة فكريّة ونفسيَّة هيَ من أخطرِ المُنزَلقات الشيطانيّة التي وقعَ فيْها بعض المَشايخ فأصبحوا موَالينَ للطاغوت وجنده، وأعداءً للحقّ وأهله: إنّها تأويل ما لا يُؤوّل، وتَبريرُ ما لا يُبرّر، وتصديق الكذّاب الذي لَا يُصَدّق، وَالبعدُ عن التحقّق والتثبّت فيمَا أمر الله بهِ بالتحقّق والتثبّت، والقبول على النفس أنْ تكونَ منَ الإمّعَاتِ الرعَاع ومعهم، أتباع نَواعق الإعلام وغربانه، الذينَ لا يَتورّعون عن اقتراف الآثام، ويَخوضون في أودية الأكاذيب وَالأوهام..
ولكلّ جملَة من هذا القول تفصيل طويل، ونماذج مُؤسفة مُؤلمَة، لا تتّسع لها هذه العجالة، التي أريد منها أن تكون توعية هادفة لكلّ طالب علم ورشد وهدى، ومُعتبرًا لكلّ من لم يشهد هذه الحقبة السوداء، والمِحنَة العمياء، التي عاشتها سورية، لتَضعَ هذه الكلمات الجميع على مهْيع الحقّ والهدى، فلا يشذّ أحد عنها ولا ينْحرف، مهما رأى للباطل من صولة وجولة، واستعلاء في الأرض ودولة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ}[الرعد:17].
ثمّ أسوأُ ما كان من هؤلاء: التسويقُ للباطل بما لا يحلمُ أن يسوّقه لنفسه ولا يقدر عليه، ممّا يَزيده كفرًا وطغيانًا، فهو كما قالوا: (رحمة مرسلة من السماء.. وهو وليّ الصالحين والأولياء.. واستعيرت له كلّ مصطلحات التصوّف الأدبيّة، المُطرية الحالمَة، من أوّلها إلى آخرها، التي لم يسمع بها في حياته قطّ، وسمع في عزاء ابنه الهالك (باسل) خاصّة الأيمان المُغلّظة أنّه يتقلّب في جنان النعيم، وسمع شهادات بصلاحه وتقواه ما لا يخطر له على بال، وأمام جموع من المُنافقين..) فهلْ بعد هذا منَ الفجور والعصيان، والفسوق والعدوان على ديْن الله ما هو أخطر وأخبث.؟! ممّا يسلك بأصحَابه مسلك الغاوينَ، الذينَ في كلّ واد يهيمون، ويكذبون وهم يعلمون، وقد أضلّهم الله تعالى على علم، وختم على قلوبهم وأسماعهم، فهم لا يعقلون ولا يتّعظون..
وما أبعد البون بين هؤلاء، وبين ما قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله». وقال أيضًا: «النظر إلى وجه الظالم خطيئة، ولا تنظروا إلى الأئمّة المُضلّين إلاّ بالإنكار من قلوبكم عليهم، لئلا تحبط أعمالكم». سير أعلام النبلاء(40،46/7).
وما روي عن عُمَرَ بن عبد العزيز رحمه الله أَنَّه قال: «إِنَّ الرَّجُلَ الهَارِبَ مِنَ الإِمَامِ الظَّالِمِ لَيْسَ بظالمٍ، ألا إنّ الإمامَ الظالمَ هو العاصي، أَلا لا طَاعَةَ لمَخلوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ».
ويقول الله تعالى مبيِّنًا مآل الظَّالِمينَ وسوء عاقبتهم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}[إبراهيم:42 ــ43].
إنّ كؤوسك أيّها الظالم ومن والاه ووقف معه، المُسكرة المُترعة تحسب عليك وتحصى كأسًا كأسًا.. وهي دين عليك، لا بدّ لك من القصاص به وسداده، بقانون الله تعالى في العدل الإلهيّ الناجز، الذي لا يجاوزه ظلم ظالم.. وإنّ عاجل عذاب الدنيا لا يعدّ شيئًا أمام عذاب الآخرة..
وإنّ كلّ الطغاة والظالمين عبر تاريخ البشريّة؛ من فرعون وهامان وقارون، وإلى أبي جهل، ونيرون، وهتلر، ومن كان على شاكلتهم من طغاة العصر وأذنابهم.. هم أولياء الشيطان وأعوانه، وجند الباطل وحزبه، يجتمعون على حرب الحقّ وأهله، ويتبادلون الأدوار ولا يختلفون.. فأنّى لأهل الحقّ أن يوالوهم أو يوادّوهم، ولو بكلمة.؟! وأولى بأهل الحقّ أن تجتمع كلمتهم، ويتناسوا خلافاتهم الفرعيّة الهامشيّة، ويأخذ بعضهم بأيدي بعض، ليكونوا يدًا واحدة على المُفسدين المُبطلين، وصفًّا كالبنيان المَرصوص.. وإلاّ فسيطول على الأمّة ليل المِحنة إلى ما شاء الله تعالى أن يطول، وسيبوء المُختلفون المُتنازعون بإثم ذلك عند الله، وإثم ضياع الأمّة وافتتانها عن دينها..! وإن لم نرتفع إلى هذا الأفق المُبين فمتى نرتفع.؟!
ثمّ إنّه شتّان بين داعية يبرّر للظالم ظلمَه، وللعاصي معصيتَه، فيَزداد العاصي في المَعصية، ويصرّ عليها، ويقارف أمثالها مُعلنًا مُتوقّحًا، ويجعل الظالم يَتباهى بظلمه، ويتفاخر بأفعاله، ويتمادى فيها، ويلتفّ حوله أمثاله من الفسقة والمُجرمين، ويستقوي بهم، ويطلق أيديهم في الإجرام بغير حساب.. وبيْن دَاعية حرّ أبيّ، لا يخاف إلاّ الله تعالى، ينكر الظلمَ والمَعصية، وينْصح العاصي والظالم، ولا يمكن أن يبرّر لهم أيّ ظلم أو مَعصيَة تقع على عباد الله: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[آل عمران:187]...
يا مَعشرَ العُلماء يا مِلحَ البلد
ما يُصلحُ المِلحَ إذا المِلحُ فَسَد
ولا رخصة للضعيف عن الجهر بالحقّ، والنهي عن المُنكر ومقارعة الظلم: إلاّ أن يعتزل واقع الظلم، ولا يقترب منه، وأن لا يشارك بتأييد الظالم ولو بشطر كلمة.. فبذلك يعذر بضعفه وقصوره، وترجى له النجاة عند الله، ولا يكلّف الله نفسًا إلاّ وسعها، ثمّ عليه أن يخرج من دار يُقترف فيها الظلم والعصيان، ويعجز عن الوقوف في وجهه والإنكار عليه، والذين لم يفارقوا ديار الظالمين يقال لهم يوم القيامة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97]..
فيا أيّها الذين وقفتم بالأمس مع المُجرم، مُؤيّدين مُشجّعين، ولو بكلمة أو بحرف توبوا إلى الله تعالى، من إجرامكم بحقّ شعبكم المَظلوم، وأعلنوا اعتذاركم له، فقد كنتم يومًا مع أعدائه الظالمين المُفسدين..
ولا تنسوا أنّ الله تعالى يملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته.. وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {مَا لَكم لا تَرجون لله وقارًا!!} : (لا يَأملون نصرَ الله لأوليائِه، وإيقاعَه بأعدائِه). تفسير القرطبي. وكم مِن شاهد على ذلك في قصص القرآن وعبره..
فيا أيها الظالم.. حنَانَيْك!! فوَ اللهِ ما أمهلَك الله تعالى عجزًا ولا سهْوًا.. وإنَّما استِدراجًا ومَكرًا! وإنّما كان الإمهال؛ ليُملِي للظالم، وليَبلُوَ صبرَ الصابر، فلله الحكمة الباهرة، والحجّة البالغة.. فيُثبِّتُ هذا على صبره، ويَجزي ذلك بقبيح فِعله!
ويا أيّها المَظلُوم.. رُوَيدك!! أفسدَ الظالمُ عليك شيئًا من دُنياك.. لِتربحَ دُنياك وأخراك، وليكون لك حسن العاقبة! فما أدنَى هذا الثَّمن في جَنب الله تعالى.. ونِعمَ العِوضُ مِن بعد رضَاه! فاصْبِر وما صبرُك إلَّا بالله! فإن لم تُطق تَحمُّلًا وصبرًا؛ فرطِّب قلبَك دائمًا بقَول الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}[فُصِّلَت:53].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
الكلمات الدالة : علماء المسلمين علماء السوء علماء السلطان علماء السلطة علماء السلاطين الطغاة الظلم الظالمين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
صفحة لا تُنسى من الإفك الأثيم
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السابع
الدعوة لوحدة الأديان في ميزان الإسلام
جَوَّاد يوم عرفة.. تأثّرًا يما يجري في غزة
صراع الخير والشر أم صراع الشر والشر؟