وأقسمت الجدة
جلست الجدة جانبًا، وهي تحمل الصغير الجميل، وتغطيه بثوبها، وتربت عليه؛ ليستمر في نومه الهنيء، فإن أحستْ بحركاته أو همساته، كشفتْ وجهه، وأخذتْ تقول له: يا حبيبي، إنك صورة عن عمِّك أحمد، بارك الله لنا فيك، ثم تمسك يده الصغيرة البيضاء وتقبلها، ثم تعود لدسها مرة أخرى، وتلتفت حولها، هل يراها من أحد؟! إن مَن يلمح منظرها يُدرك أنها جد خائفة على الصغير الحبيب، الذي سلبتْه من أمِّه ساعات من النهار؛ خوفًا عليه - كما تقول هي.
نظرت إليها إحدى حفيداتها الشابات، واقتربتْ منها وقالت: أرجوك يا جدة، فسِّري لي تمسكك بالصغير أحمد، قولي لنا: ما وراءك؟ وما السر المكنون الذي تحتفظين به؟
لو قلت لكم لن تصدقوني، وإن صدقتموني فلن تقتنعوا بكلامي؛ فأنتم يا أبناء حضارة القرن العشرين، لا تؤمنون بما كنَّا نعتقد به جازمين، فلِمَ التحدُّث إليكم إذًا؟!
• تجمَّع الشباب والصغار، وقالوا بأصوات مُتتابعة: قولي يا جدة، تحدثي، كلنا آذان صاغية.
• المهم يا أحبائي أن تكونَ أذنكم واعية، ثم نظرتْ إلى الصغير أحمد، وضغطتْ عليه بحنان ورفق، وعادت لتقبل يده ثم دسها في ملابسه، وبعدما اطمأنتْ على كنزها، اتكأت على أريكتها، وبدأت تنظر في صفحات الماضي:
• يوم أن كنا نعيش حياة بسيطة أنا وجدُّكم، وسط عائلة كبيرة، تربطها أواصر محبة دافئة، كانت العروس منَّا تسابق الرِّيح؛ لتفوز بأجمل لقب، وأكرم لقب يضاف لاسمها، يومها رزقت يا أبنائي في خلال ثلاث سنوات ثلاثة صبية، فعلق أحدهم: لقد كنت في عصر السرعة يا جدة، وتساءلت أخرى: وهل أصبحت أمًّا لثلاثة في يوم واحد؟
• لا، لقد كان بين الصبي وأخيه قرابة العام، أذكر أنِّي رُزقت الولدَ الثالث، والذي أسميته أحمد، كان جميلاً جدًّا، مذ أهلَّ بصراخه العذْب فحملتُه بين يدي وقبَّلته، ولم يتجاوز عمره الساعة بعد، تعلق قلبي به، وكأنه الصغير الأول، وبعد أسبوع مضى على ولادته قرر جدكم - رحمه الله - أن يذبح عقيقة؛ عملاً بسنة الرسولصل الله عليه وسلم،ودُعي لهذه العقيقة جمع غفير منَ النِّساء والرجال، ربما دعي لهذه العقيقة قرابة نصف القرية، وإني أذكر تمامًا أن يومها كان يوم جمعة، فحضر الرِّجال والنساء قبل صلاة الجمعة، وبارك الرجال لجدكم - رحمه الله - الذي لم تشغله متابعة ذبح العقيقة وتجهيزها عن استقبال ضيوفه وإكرامهم بتقديم الحلوى والتمْر والقهوة العربية، وكان الرجال في غاية السعادة والفرح في ذلك اليوم.
• وكنتُ أستقبل المهنئات من النساء، وأشكرهنَّ على مشاعرهن الطيبة، ومشاركتهن فرحتنا.
• فقالتْ إحدى الصغيرات: تمامًا مثلما حدث اليوم في بيتنا.
• فأجابت الجدة بانفعال: لا يا حبيبتي، أسأل الله أن يصرفَ عنكم ما حدث لنا! واحتارت الدموع في عينيها، فقال أحد الأحفاد: أكملي يا جدة أرجوك، فأكملتْ قائلة: دخلت بيتي سيدة متوسطة العمر، كثيرة الكلام - غفر الله لها كنت أعرفها جيدًا، كانت دائمة السخط على حياتها، ولم تكنْ لترى الخير إلا في يد غيرها، أقبلتْ هذه السيدة نحوي مباركة، ونظرت لصغيري أحمد، وقالت: ملك جمال يا ناس، لم أرَ في حياتي أجمل منه، والعافية ألبستْه أثواب الهناء.
• فسحبتُ الصغير مِن حجرة الاستقبال، وذهبتُ به إلى غرفة النوم، وتركتُه ينام هادئًا، وبعد حوالي ساعتين، وقد قدم طعام العقيقة أمام الضيوف، وكانتْ ضيفتنا تأكُل بشهية عجيبة، أذكر أنها قالتْ لي: يبدو أن ولدك الجميل جدًّا هادئٌ جدًّا، فقلتُ: الحمد لله على ذلك.
• ثم تسللتُ من بين النسوة وتوجهت صوب غرفة النوم، فكشفت الغطاء عن وجه الصغير أحمد، فرأيته نائمًا هادئًا هدوءًا أبديًّا، فصبرت واحتسبت، وطلبتُ من جدته أن تساعدني في تجهيزه، وقبل أن يخرجَ المهنئون طلب والده من الرجال الذهاب معه للصلاة على الصغير أحمد، وعانقت الجدة حفيدها أحمد، وهي تُحاول إخفاء دموعها، ثم رفعت رأسها وقالت:
• أفهمتم لماذا أنا خائفة؟ هل خفتم مثلي؟ أم أنكم لا تصدقون بحقيقة الحسد الأليمة؟ أقسم يا أحبائي، إنها حقيقة ناصعة، وليس خرافة عجوز ذاهبة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن