تحمل المسؤولية
خلق الله الإنسان وليدًا عاجزًا، ثم طفلاً غرًّا جاهلاً، ثم فتى طائشًا، ثم شابًّا متهوِّرًا، وأخيرًا يصبح رجلاً ناضجًا؛ فأَعطِي في كل مرحلة حقَّها.
مِن الأمهات من تأتي للطفل الصغير وتقنعه أنه صار رجلاً؛ فيتزبب قبل أن يتحصرم! إياك أن تولِّي طفلاً صغيرًا مسؤولية الرجال بشكل كلي أو دائم (فتسلميه المصروف أو تكلفيه الاهتمام بإخوته الصغار) هذا خطأ، ولا أنكر أن بعض الأطفال يتقنون القيام بهذا الدور ويثيرون إعجاب ذويهم، ولكن عاقبة ذلك سيئة؛ والولد الذي يحمل المسؤولية قبل أن ينضج ويصبح أهلاً لها (يُصدِّق نفسه!)؛ فيتكبر ويتجبر ويخرج عن نطاق السيطرة، وبعد سنوات قليلة ينحي أباه جانبًا ويصبح هو "مَلِك البيت"، فيستبد بإخوته ويتحكم بأمه، ولأنه ما زال غضًّا طريًّا لم يخبُر الحياة؛ تكثر أخطاؤه وسقطاته، ويصبح وبالاً على عائلته؛ لأن أحدًا منهم لا يستطيع وقفه؛ لأنه شاب قوي، ولأنه تمرس في السيطرة وصار شرسًا.
ومن الخطأ توكيل الأبناء الكبار ليقوموا بتربية إخوتهم الصغار، فيسند إلى الصبي البكر توجيه إخوته وتأديبهم ويتنحى الوالدان، وهذا من أفدح الأخطاء؛ لأن الأم والأب يحملان عاطفة قوية لا يحملها الإخوة بعضهم لبعض، ويملكان فوقها الخبرة والتجرِبة؛ فهما الأقدر على القيادة والتوجيه، وأهمه تقدير أبعاد الأمور؛ ولذا لا ينبغي للوالدين إسناد التربية إلى أبنائهم الكبار، ولو بدا على أحدهم الحكمة والحِنيَّة؛ لأن الأخ يفكر باللحظة الحالية ويفتقد العمق وبُعد النظر، وسيفسد أكثر مما سيصلح.
فاحذري! فإن أبناءنا مهما كبِروا فنحن أكبر منهم، ومهما خبَروا الحياة فنحن أحذق منهم، وصحيح أن من الأبناء من فاقوا آباءهم، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد سن الثانية والعشرين؛ أيْ: حين ينضجون ويدخلون مُعترَك الحياة الحقيقي، ويتعايشون مع أصناف الناس.
وفي ديننا الإسلامي لا يعتبر الصغير مؤهَّلاً للقيام بأيِّ شيء؛ لا التكاليف الشرعية، ولا إبرام العقود، ولا الشهادة، فكيف نعتبره نحن رجلاً ونحمِّله المسؤولية الكاملة، ونعامله معاملة الرجال؟!
فلا تُحمِّلي طفلك مسؤولية كبيرة، ولكن لا بأس من تدريب الصغير وتعليمه؛ فتدرَّجي مع ابنك في التكاليف، مثلاً: الطفل تُطلَب منه بعض الطلبات اليسيرة؛ ليبدأ بتحمُّل المسؤولية (ولا ضير بأن يتحمل مسؤولية إخوته لساعات قليلة، أما بشكل دائم فلا)، والفتى تُوكل إليه المهام بالتدريج المريح، ويراقَب أثناء أدائها ويوجَّه.
على أن البلوغ هو الفيصل، ومتى بلغ الصبيُّ وصل إلى سنِّ التكليف شرعًا، حينها نكلِّفه نحن أيضًا بالمهام الحقيقية بعزم وجديَّة، ويتحمل البالغُ مسؤولية نفسه فقط، فإذا أضحى شابًّا حملناه مسؤولية نفسه كاملة ومعها مسؤولية الآخرين ممن يلوذون به.
وانتبهي.. "البالغ يتحمل مسؤولية نفسه"، ولا يعني هذا تكبره على أهله، واستقلاله وامتناعه عن تقبل النصيحة والتوجيه، فالنصيحة لله ورسوله وللمؤمنين جميعًا، ومهما كبِر المرء ونضج، فإنه يخطئ وتبقى النصيحة لازمة في حقِّه، وأنصحك أيضًا: "حَمِّلي ابنك عند البلوغ "مسؤولية نفسه" فقط، وبعدها تدرَّجي في تحميله مسؤولية الآخرين ولا يتحملها كاملة إلا بعد نضوجه وتجاوزه سن العشرين، وهو ما يُسمَّى "سن الرشد"
والمسؤولية تربَّى من الصغر وتأتي متدرجة، وتكون على مراحل، والمسؤولية متنوعة، وتبدأ بأشياء صغيرة هيِّنة (العناية بالألعاب، الحفاظ على الأشياء والممتلكات، المساعدة في الأعمال، إنجاز بعض المهمَّات)، وأكثر الأطفال يحرصون على تحمل المسؤولية بدافع داخلي، فيسارعون لخطف الملعقة من يد أمهم ومحاولة الأكل بأيديهم، أو لبس ملابسهم وحدهم، ويبادرون بأنفسهم لتحمل بعض الأعباء: لاحظي كيف يأتيك صغيرك طالبًا منك السماح له بأداء بعض المهام التي تقومين بها، ويسعى لتقليدك فيها، فيمد يده لآلة الكنس متسائلاً: "هل بإمكاني التنظيف بها؟"، ويرجوك أن يرد على الهاتف، أو يساعد أخاه الصغير في لبس حذائه، هنا تكون الفرصة مناسبة جدًّا لتعلم المسؤولية، ويبدأ التعلم من البيت:
1- اسمحي لابنك بالقيام بالأعمال التي يطلبها (اللبس وحده، والأكل بيده، والمساعدة في أعمال البيت)، حين يَطلب القيام بها، ولا تقولي: "ما زلت صغيرًا"، دعيه يجرِّب - تحت سمعك وبصرك - ظانًّا أنه سيد الموقف، ولو أدى ذلك إلى بعض الخسائر أو المتاعب، ولكن لا تدعيه يخطئ ويتمادى، بل زوِّديه بالتعليمات وأنت واقفة بعيدًا، وبذلك يتعلم الطفل الممارسة الصحيحة.
سيكون متشوقًا للتعلم كيف تنجز الأمور، فأرشديه وأعطيه الأساس الجيد والتعليمات اللازمة، وسيهتم ويستمع إليك، واصبري عليه وشجعي محاولاته الأولى وأعطيه الثقة، وتوقعي منه النجاح؛ لأنه مقبِل على العمل بكليته، وراغب في المساعدة من كل قلبه
أما إذا رفضتِ مساعدته، وكَبَتِّ رغبْتَه في الإنجاز والتعلُّم، ذهبتْ تلك الرغبة وماتت، فيصعب عليك مِن بعدُ تعليمُه، وحفْزه على العمل وعلى تحمل المسؤولية المترتبة عليه.
2- واطلبي أنت المساعدة من ابنك في أوقات أخرى، وأعلم أنك ستَشُكِّين في قدرته على القيام بالعمل، وسَتَشْكين من بُطئه وقلة إتقانه، وقد يعوقك ويضايقك لكن يجب أن يتحمل نصيبًا من العمل، ناديه ليناولك الغسيل، أو يساعدك في طيه وتوزيعه على الأدراج، ولا تنسي خلال ذلك طفوليته وسرعة ملله وميله إلى اللهو واللعب؛ فلا تحمليه مسؤوليات أكبر من عمره؛ وإنما بما يناسب طباعه ويوافق قدراته
على أن تحدِّدي له - كلما كبر - نصيبًا من العمل يقوم به كل يوم، ويصبح واجبًا عليه، فيعلِّق ملابسه، يضع حذاءه في مكانه المخصَّص، يرتِّب سريره، ينظم لعبه، ثم يساهم معك في ترتيب المائدة، وإذا ملَّ نوكل إليه كناسة الأرض من باب التنويع، ولا ضير أن يقوم الذكر بعمل الأنثى.
وإذا جاءك ضيوف واحتجْتِ له، فأخِّريه عن موعد نومه؛ ليساعدك في إكرامهم، واطلبي منه عملاً مجهدًا في مرة أخرى؛ ليتحنَّك ويتدرب قليلاً على السهر وتحمل المشقة، فالحياة صعبة ولا تأتينا بما نحبه ونرضاه
3- تدرجي معه بحيث يبلغ السابعة وقد تعود القيام بمهامه وحده؛ فيلبس ويأكل ويشرب، وفوقها يزيل آثاره؛ أيْ: يجنبك الفوضى الناجمة عن نشاطه اليومي؛ فيضع كل ما يستعمله من أدوات في مكانها المخصص، وصحنه في المجلى (أو بالجلاية)، وحين يعود من المدرسة يضع الشنطة مكانها (تحت مكتبه مثلاً) فور وصوله، ثم يتوجه إلى الحمام فيخلع ثيابه الخارجية ويعلقها على المشجب الذي خصص لملابس المدرسة، ثم يخلع الجوارب ويضعها مع الغسيل.
4- سيقول لك صغيرك بعد مدة: "العمل ممل، ولا أحب القيام به"، لا تستسلمي لكلامه، وثابري على تكليفه؛ (فالحياة كلها مهام ثقيلة، وعليه ممارستها شاء أم أبى، فليتعود باكرًا)، ألزميه بواجبات يومية في البيت وخارجه، وحبِّبْي إليه العمل بذكاء؛ فنوِّعي الأعمال، وزيني بعضها لتبدو ممتعة، وشاركيه في بعضها الآخر لإثارة حماسه، وخذي رأيه ليتشجع فاسأليه: "أين نضع الأريكة؟ هل نغير مكان المكتبة؟"، واحكي له قصصًا أثناء أدائه، أو ضعي شريطًا يحب سماعه، أو حدِّثيه عن ذكرياتك المرحة وتجربتك مع الأعمال المنزلية والتكليفات اليومية الضرورية.
حمسيهم واعملي معهم بهمة، وحين ينتهي العمل أعْلِي من قيمة النظافة والترتيب؛ ليتعود الولد عليهما ويصبحا سجيَّة له؛ فلا يطيق الفوضى والوساخة، وإذا كان العمل في إصلاح كرسي أو تعليق لوحة فأعلي من قيمة شطارتهم وقدراتهم.
5- لا تهزئي من إنجاز صغيرك ألبتة، وأَشعريه بالرضا لقاء قيامه بهذه المهام، وكيف أضحى في نظرك كبيرًا لاعتماده على نفسه، ولا ضير أن تعفيه في آخر الأسبوع من بعض الأعمال؛ ليأخذ راحة من الأعباء والتكاليف، وليشعر بحلاوة العطلة، وإذا لم يتقنه هوِّني عليه بقولك: "هو صعب وأنا أخذت وقتًا حتى تعلمته"
6- وليكن عمله (في إزالة آثار ما يفسده) واجبًا وفرضًا عليه، ومساعدته (في أعمال البيت العامة) بِرًّا وعونًا لك ومروءة منه؛ أيْ: بلا مقابل مادي أو رجيع ملموس، ولا بأس بشكره على قيامه بالعمل.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن