بيني وبينه
تأخرت على الموعد فمررت مسرعةً إلى المكتبة.. لم أرَ إلا خيالات إذ لم أدقّق في الوجوه ولكنني ألقيت تحية الإسلام ثم أعطيت الأوراق لصاحب المكتبة أحمد – جاري منذ الصِغر - ليصوِّرهم لي وأخبرته أنني سأعود لآخذهم بعد ساعة. وهذا ما حصل فعلاً فبعد انتهائي من الموعد عدتُ إلى المكتبة وكنتُ هادئة جداً. دخلت وسلّمت عليهم ولم أمحِّص كثيراً في وجه الرجل الواقف حتى وجَّه إليّ الكلام بعنف: “وهل نحن لا نستحق التحية حتى تلقيها على أحمد فقط حين دخلتِ في المرة الأولى؟” تفاجأتُ من تهجّمه عليّ بهذه الطريقة ورددت بلباقة: “ولكنني متأكدة أنني ألقيت التحية بدون تسمية أحمد! وعلى كل حال لا مشكلة” وأعدتُ إلقاء التحية على الأستاذ الواقف قبالتي من دون حتى أن أعرف من هو.
ثم باغتني بسؤال أثار استغرابي! “لِم تلبسين هذه الثياب؟
فقلت لأن الله جل وعلا أمرني بالحجاب وأنا مقتنعة بهذا اللباس فارتديته. فقال لي: “أنا لا أحترم من يبالغ في اللباس” فقلت له: “هذه مشكلتك!” وتدخّل هنا أحمد ليقول له بهدوء – وهو صديقه – لا أسمح لك أن توجِّه للأخت هذه الكلمات. فقلت لأحمد: لا بأس أنا لست متضايقة أبداً من صراحة الأستاذ وتوجهت إليه بالكلام: “هل تقيِّم الناس أخي على حسب منظرهم الخارجي؟” فقال: “بالنسبة لي أرى هذه المبالغة في الستر ضرباً من السذاجة؛ ثمّ ليس المهم لباس الجسد بل الأخلاق هي الأساس“. فابتسمت وقلت طبعاً التقوى هو الأهَم وما هذا اللباس الا التزام بأوامر الله جل وعلا وما كان للمؤمن أن تكون له الخِيَرَة إذا قضى الله جل وعلا ورسوله أمراً ولكنني أؤكّد على كلامك بأن لباس التقوى ذلك خير والمعاملة الحسنة هي أساس في ديننا وأقرب الناس إلى الحبيب عليه الصلاة والسلام أحسنهم أخلاقا”. ثم سألني “هل أهلك أجبروك على هذا الحجاب؟” وعادت بي الذكرى إلى اليوم الذي تحجبت فيه منذ عشرين عاماً ولم يكن الحجاب منتشراً في تلك الفترة.. ويومها سارعت إحداهنّ لسؤالي بعد رؤيتي بالحجاب مستهجنة وقد كانت تعرفني في جاهليتي الأولى: هل تزوجت من القرية يا سحر؟ سبحان الله وكأن الحجاب هو رمز التخلف والرجعية – هكذا فهموا وأفهمونا من قبل! وعدتُ إلى هذا الأخ الغارق في سلبيته تجاه ديني.. وأخبرته أنني اخترت الحجاب عن قناعة كاملة وكان ذلك حين دخلت الجامعة وتعرفت على الإسلام. فسارع بالقول: أنا متأكد أنك تحجبتِ إثر صدمة عاطفية! فلم أستطع أن أرسم جديّة مصطنعة فضحكت لهذه الأفكار التي توارثوها عن أسباب العودة إلى الله جل وعلا. وأجبت: كلا أستاذي ليس الأمر كما قلت بل إنني كنتُ أنعم بكل ما ترغب به أي فتاة ولكن كان هناك شيء ما أفتش عنه ولا أعرف ما هو بالرغم من كل ما حباني الله جل وعلا به! كنت أغالط نفسي أنني سعيدة بما عندي ولكني كنتُ أفتقد مشاعر السكينة في قرارة نفسي حتى وجدتُ الله جل وعلا فعلمتُ أن في القلب فراغٌ لا يملأه إلا الله جلّ وعلا فسارعت إلى طلب مرضاته والإياب إليه وقد كانت أسعد لحظات عمري حين وضعتُ هذا الحجاب الذي تعتبره ردّة فعل نتيجة صدمة! ولئن كان البعض قد عاد إلى الله تعالى إثر صدمات – وهو أمر طبيعي لأن البلاء قد يجعل الإنسان يستشعر تفاهة الدنيا ويتذكّر الآخرة - إلا أنني لست من تلك الفئة!
واسترسل في السؤال: هل رأيت ما فعله فتح الإسلام في طرابلس؟ هل هذا هو الدين؟ فأسررتُ في نفسي.. الآن اتّضَح أمر هذه الثورة في داخله! فلباسي يوحي أنني متطرفة – بنظره – وأن الإسلام هو تلك الصورة المشوّهة التي أظهرتها تلك الفئة ومن قبلهم في “غزوة نيويورك”!! حاولت أن أوضِح له أن أفعال المسلمين للأسف لا تُظهِر الإسلام على حقيقته فمن المسلمين من غالى.. ومنهم من أساء وهو يظن أنه محسِن.. ومنهم من قزَّم الدين ليكون في طقوس والجوف فارغ.. ومنهم من شدّد ومنهم من أرخى ومنهم من ضيَّع ومنهم من باع الدين بعرضٍ من الدنيا زائل! ومنهم من جهل واستفحل في جهله وانساق وراء عاطفته الدينية عن جهل حتى قاده أصحاب المطامع ليخرِّبوا ويحقِّقوا مآربهم أو يطبِّقوا أجندة أملاها عليهم أسيادهم لقاء حفنة من مال نتِن أو للتفريق وتشويه الدين وركنه الشديد الجهاد! وأفهمته أنه لا يجب إسقاط ممارسات خاطئة على الإسلام الحنيف فالرجال تُعرف بالحق ولا يُعرَف الحق بالرجال!
قال لي: أنا لا أثق في رجال الدين ولذلك لا أصلي في المساجد. فسألته: وهل تصلي في البيت؟ قال: لا فقلت له إذاً المشكلة ليست في رجال الدين والعلماء وإنما فيك أنت.. فيبدو أنه يحلو لك أن تتّخذ أمر الثقة مبرراً لانشغالك بالدنيا وإعراضك عن الله جلّ وعلا وهو لا شك أسهل عليك أن تُخدِّر ضميرك بحَقْنِه مفاهيم تُريحك وتُبعِد عنك شبح التقصير! فبنظرك انك لست محتاجاً إلى الصلاة وستبعد عنها لكيلا تكون مثل أولئك الذين يسيئون وهم يدّعون الايمان! ما الذي يمنع أن تلتزم وتصلي وتكون قدوة لغيرك وصورة مشرِقة للمؤمن؟! ثم المشكلة الأكبر عندك أنك تعمِّم على كل رجال الدين وهذا أمر خاطئ فصحيح أنه يوجد لدينا علماء السلاطين وهم فئة قد تسعى وراء مصالح دنيوية ولكننا لا نُجمِل على جميع العلماء ونتّخذها ذريعة للبعد عن المساجد والالتزام بشرع الله جلَّ وعلا؛ ثمّ إن رحمة الله وسِعت كل شيء وكل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوّابون ولسنا ملائكة حتى أنت لست بملاك ولا أنا ومن كان منّا بلا خطيئة فليرجم عباد الله!
ثم عرّجنا على وضع لبنان السياسي وعرفتُ أنه من فريق الموالاة.. فبيَّنتُ له لِم لا أقبل الانضمام إلى أيّ الفريقين فلا معارضة ولا موالاة! والكل يعمل لمصالح ضيّقة ويدّعي حب لبنان والعمل له كأولئك الذين يدّعون حب ليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاك! وبالرغم من اختلاف وجهات النظر بيننا إلا أنني أكّدتُ له أنني أحترم رأيه وعلى كل امرء أن يحترم الآخر ولا يلغيه بدعوى أنني دائماً على صواب والآخر دائماً على خطأ فرأيي يحتمل الخطأ كما الصواب وقد أكون متمسّكة بما أؤمن به حتى إذا ما ظهر لي الحق في قول غيري سعيتُ لاتّباع الحق دون خجل؛ وتأبى نفسي أن أكون إمّعة أتّبع ما يريد هؤلاء أو هؤلاء أو أن أسمح لأحد أن يسوقني كالنعجة لأكثِّر سواد فريق وأعادي الفريق الآخر.
طالت المحادثة حوالي ساعة من الزمن اعتذرت بعدها عن المتابعة لتأخري عن البيت وقبل أن أخرج بادرني بجملةٍ فاجأتني: “كنتُ قبل أن أكلّمك متضايق من لباسك ولكني الآن متضايق أكثر! فكيف من له عقل مثلك أن يغطيه بغطاء صفيق؟!”
ابتسمتُ قائلة: يا أخي هذا الغطاء هو لتطبيق فريضة وهو غطاء لرأسي وليس لعقلي!!
ولم أنتهِ من إكمال جملتي حتى دخلت شابة شرَّعَت من جسدها أكثر مما أخفت فالتهمها بعيونه ووسعت ابتسامته حتى شدقيه وهو ينظر اليها نظرات محرِقة.. فانتظرتُ حتى ابتاعت ما تريد وحين خرجت ألقيتُ عليه كلماتي الأخيرة: “أظنّ أن نسبة الاحترام عندك ترتفع بارتفاع الفستان من أسفل وانخفاض القماش من أعلى! اللهمّ لا تجعلني من المحتَرَمين عند هؤلاء!”
أدرتُ ظهري ومضيت وفي الرأس تدور مئات الخواطر.. تمتمتُ: يا إلهي.. اهدِ قومي فإنهم يلتحفون الجهل ويفترشون الشهوة!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا