موقعة 30 يونيو.. أطرافها ومآلاتها
نستخدم مصطلح "موقعة" تذكيرا بموقعة الجمل التي كانت المحاولة الأخيرة من قبل النظام البائد لوأد الثورة، والتي أجمع المنصفون على أن شباب الإخوان هم الذين تصدوا لها ببسالة رائعة أنهتها لصالح الثورة، لتكون محطة الانتصار، من دون أن يدعي أحد بأن الإخوان هم من صنعوا الثورة، حيث لم يزعموا ذلك بحال، وإن كان دورهم فيها كبيرا لا ينكره غير جاحد.
موقعة 30 يونيو هي أكبر السهام في جعبة المعارضة لإخراج الرئيس مرسي والإخوان، ومن وراءهم من الإسلاميين من الساحة، وأقله تهميشهم على نحو كبير. ونقول أكبر السهام، وليس آخرها، لأن من غير المتوقع أن يستسلم أولئك القوم في حال فشلها، بل سيواصلون الحرب من خلال كافة الوسائل، وفي مقدمتها الإعلام من أجل إجهاض التجربة الإخوانية وحشرها في زاوية الفشل وصولا إلى إخراجها من دائرة التأثير، إن لم يكن قبل انتهاء ولاية مرسي، فقبل ذلك.
في 30 يونيو يكون الرئيس مرسي قد أنهى عامه الأول في الحكم، لكنه عام مدجج بالأحداث والمشاكل التي لم تدع له مجالا للتنفس والارتياح، ليس فقط بسبب التركة الثقيلة التي ورثها عن النظام السابق (دمارا على مختلف الأصعدة)، بل وهو الأهم، بسبب العصيان المتواصل من قبل قوى المعارضة التي باتت في تحالف واضح مع الفلول والدولة العميقة بمختلف تجلياتها، الأمنية والعسكرية والقضائية، وحتى المدنية والتجارية والاقتصادية.
الفشل الذي يتحدث عنه أولئك هو العنوان المتاح لتقييم العام الأول للرئيس مرسي في الحكم (كان ذلك حكمهم منذ الشهور الأولى)، فيما الموقف يتجاوز ذلك، لأن الجميع يدرك أن ساحرا مبدعا لن يكون بإمكانه إخراج البلاد من أزماتها في عام واحد، لكن المشكلة هي أن النخبة العلمانية واليسارية والقومية (مع الفلول) لا تجد غير هذا العنوان لإطلاق الرصاص على التجربة، فيما الحقيقة أنهم يستكثرون على مرسي والإخوان وعموم الإسلاميين أن يكونوا في السلطة بعد الثورة، هم الذين يرونهم جديرين بالسجون، وربما بالمساجد المحاصرة بالقوانين ليس إلا.
مزيج من الحسد والحقد والثأر والمواقف الأيديولوجية تقف خلف ما يجري، مع قدر من الغضب المحدود والخيبة (وربما استعجال التغيير) من قبل مخلصين لهم ملاحظاتهم على الأداء العام، لكن الفلول هم المحرك الأكبر لما يجري، ومن ورائهم دول عربية لا تريد خيرا، لا بمصر ولا بالربيع العربي، ومن غير المتوقع أن يكون لتلك القوى موقف أفضل لو كان آخرون ينبعون أيضا من ضمير الشعب هم الذين استلموا السلطة، لأن المطلوب بالنسبة لأولئك هو إجهاض فكرة الربيع العربي برمتها.
لا خلاف على أن الإخوان قد ارتكبوا بعض الأخطاء، لعل أهمها حكومة التكنوقراط بدل حكومة الوحدة الوطنية، وكان ينقصهم الكثير من المكر والدهاء السياسي في إدارة المرحلة، لكن المؤكد أن موقف أكثر أولئك، ولا نقول جميعهم لم يكن ليتغير لو كان المسار مختلفا، وفي مقدمتهم مؤسسة الأمن المناهضة للرئيس، ومن ورائها مؤسسة القضاء، وبما لا يقل أهمية الموقف السلبي للمؤسسة العسكرية، ولو كانت هذه جميعا مساندة للرئيس، أو محايدة في أقل تقدير، لما رأينا كل هذه المطاردة اليومية له، وعملية الشيطنة، بل الاستباحة (التي تتولى كبرها وسائل الإعلام)، والتي يتعرض لها في سابقة ربما لا يعرفها التاريخ.
عندما أفلست قوى المعارضة، ولم يعد بوسعها حشد أكثر من آلاف فيما تسميه مليونيات، خرجت بهذه الفكرة الجديدة (فكرة تمرد) التي تتلخص في جمع توقيعات من الناس لسحب الثقة من الرئيس وصولا إلى تحديد يوم 30 يونيو للخروج إلى الشوارع لفرض انتخابات مبكرة، والأصح من أجل دفع الجيش إلى التدخل وإقصاء الرئيس، بعد نشر الفوضى في طول البلاد وعرضها.
إنه سيناريو الانقلاب العسكري الذي لم يغادر عقل أكثر قوى المعارضة، ومن ورائها القوى الخارجية (العربية تحديدا، والتي لا تتحرك غالبا إلا بإشارة، وأقله بموافقة قوى الخارج الغربية)، ويوم 30 يونيو هو السهم الأكبر في جعبتها لتصعيد العنف والفوضى إلى أبعد مدىً ممكن كي يتدخل الجيش ويقصي الرئيس ويمسك بالسلطة خلال مرحلة انتقالية لا يعرف كيف سيجري ترتيب الوضع بعدها. المهم هو إقصاء الرئيس والإسلاميين، وبعدها ترتيب الموقف برمته على نحو مختلف.
لن يكون من الصعب تنفيذ سيناريو يوم واحد يجري فيه حشد كل الجهود الداخلية والخارجية، واستنفار العنف والبلطجة، مع متظاهرين سلميين من أجل تنفيذ السيناريو المشار إليه، وسيكون الأقباط عنصرا فاعلا في المشهد بعد بيان "جبهة الشباب القبطي" وموقف بابا الكنيسة الذي دعا أتباعه للمشاركة، مع سائر أركان الحشد الأخرى.
من الصعب الإجابة على سؤال نهاية ذلك اليوم، ولا يعرف كيف ستتعامل الرئاسة، والأهم مؤسسة الأمن والجيش مع المشهد، قبل ذلك اليوم وأثناءه؟ ومن يتابع بعض التسريبات التي تصدر عن "مصادر" في المؤسستين الأمنية والعسكرية، سيجد قدرا من التواطؤ، وربما التشجيع من قبل عناصر فاعلة فيهما على إكمال السيناريو، وصولا إلى الانقلاب.
كما أن من الصعب الإجابة على كيفية الرد من طرف الإسلاميين الذين قرروا عدم النزول إلى الشارع في ذلك اليوم خشية الاشتباك مع الآخرين وتصعيد العنف، مع العلم أن جميع القوى الإسلامية (خلا حزب النور الذي بات أقرب إلى محور عربي كاره للإخوان والربيع العربي، وأبو الفتوح الذي لم يغادر ثأره مع الإخوان) قد انحازت للرئيس، ونزلت إلى الشارع بقوة رهيبة يوم الجمعة (21/6).
والحق أن إقصاء رئيس منتخب من خلال توقيعات هي سابقة في الديمقراطيات، ولو كان الأمر متاحا على هذا النحو، لما أكملت حكومة منتخبة ولايتها، وكذلك أي رئيس منتخب، لكن المنطق يبدو غائبا هنا، لا سيما إننا إزاء رئيس لا يدعو الناس إلا إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع من خلال إكمال مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها مجلس الشعب الذي سيشكل الحكومة بعد ذلك، ولذلك فإن الحديث السابق عن فكرة "تمرد" عن تغيير الحكومة "الفاشلة" هو محض مماحكة هدفه إذلال الرئيس، ليس فقط لأن الحكومة ليست فاشلة وتصل الليل بالنهار من أجل مصلحة المواطن، بل أيضا لأن الأولى هو انتخاب مجلس الشعب وتشكيل حكومة برلمانية تعبر عن الجميع، وهذا هو جوهر الثورة، وليس العنف والفوضى ومحاولة البحث عن حصص سياسية بعيدا عن صندوق الاقتراع.
ما يدعوهم إليه مرسي هو جوهر الثورة، وليس نقيضها، ممثلا في انتخابات حرة لتشكيل مجلس يعبر عن آراء الشعب، ويشكل الحكومة ويتحمل المسؤولية، لا سيما أن صلاحيات الرئيس في الدستور الجديد ليست بالقوة التي كانت عليها في الدساتير السابقة.
إنها معركة كبيرة يتداخل فيها بؤس الداخل وتناقضاته، وحضور الخارج الكاره لربيع العرب ولدور مصر المحوري، ومن ضمنه الغرب والكيان الصهيوني. ولا قيمة هنا للقول إن الكيان لم يتأثر بما يجري لأن النظام الجديد لم يفعل شيئا ضده، لأننا إزاء كيان ينظر إلى البعد الإستراتيجي ولا يحصر نفسه في أسئلة المدى القريب. والخارج هنا يحضر في سياق عربي وغربي، وحتى إيراني، إذ لا تريد إيران للإسلاميين أن يكون لهم دور وحضور في أكبر دولة عربية، هي التي تجد في "الإسلام السنّي" إن جاز التعبير خصما كبيرا.
ما يجري في مصر -تماما كما هو حال ما يجري في سوريا- هو صراع على المنطقة برمتها، حتى لو لم يدرك البعض في الداخل المصري ذلك، ولا يعرف إلى أين تسير الأمور في ظل هذه المأساة التي تستمر أمام عيوننا، ويدفع ثمنها الشعب المصري الذي تخلى عن قوى المعارضة بعد أن رأى عبثية سلوكها، لكنها الآن تعود إليه بطريقة مختلفة وفي يوم واحد تريد تحقيق ما عجزت عنه طوال عام مضى.
كان الرئيس مرسي يمضي بالبلد نحو مسار عملي يكمل من خلاله مؤسسات الثورة، ويضع البلاد على سكة حكم مدني يعبر عن ضمير الناس من خلال الصناديق، لكن المواقف المسبقة، مع قدر من العمى السياسي لم تسمح لكثيرين برؤية المشهد على حقيقته، إذ أية دكتاتورية تلك التي تدعو الناس إلى الصناديق لانتخاب مجلس شعب يعبر عن ضمير الناس، وأي دكتاتور ذلك الذي سيعرض نفسه على الناس بعد ثلاث سنوات؟
ليست لدينا إجابة حاسمة على ما سيحدث في نهاية ذلك اليوم، وإن توقعنا شكل العنف والفوضى التي سترافقه، تلك التي تفضحها فضائيات الفلول بشكل يومي على نحو غير مباشر، لكننا ندعو الله أن يلهم شرفاء مصر وعقلاءها سبيلا للعقل والسداد يجنب البلاد المسارات البائسة، ويعزز المسار الذي يحمي مطالب الشعب والثورة، ويضع الأمة من وراء مصر على سكة النهوض والتغيير.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن