باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
أكذوبة المذابح الأرمنية
كثيرة هي الحالات التي تتغير بها الحقائق وتحيلها مجموعات معينة أوراق ضغط تثار حولها المكائد والدعاوى الباطلة حتى تستحيل حقيقة لا يمكن نكرانها أو حتى تبيان عوارها في الصيغة والأسلوب، ويصبح رفضها جريمة قائمة الأركان...
وكم في التاريخ أشباه هذه الحوادث حيكت رواياتها بقالب واحد ومن وجهة نظر أحادية الجانب متطرفة لا تقبل النقد أو التوجيه، تهدف لتصوير فئة معينة ضحيةً لمصالح سياسية وعرقية ودينية، والراوية التي نتطرق إليها اليوم هي "فِرية المذابح الأرمنية" وهي تهمة ألصقت زوراً بالدولة العثمانية في أواخر أيامها تحمل الكثير من المغالطات التاريخية إضافة لطمس جزء كبير من الحقيقة والتي سنستعرضها في مقالنا.
ولكن قبل أن نتطرق لأصل المشكلة علينا فهم الواقع الذي وصلت إليه الدولة في حينه والوقوف على عدد من المنطلقات التي تسهّل علينا فهم هذه الحقبة والأحداث الشائكة التي حصلت.
١- بعد حكم السلطان عبد الحميد الثاني -رحمه الله- الدولة لسنوات طويلة استطاعت فئة من القوميين الذين تربّو في المحافل الماسونية التوغل في المناصب المهمة والجيش وقاموا بمكيدة كبرى عرفت بحادثة "٣٠ مارت " - تم على إثرها الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني حيث عزل ثم نفي إلى ولاية سلانيك ذات الغالبية اليهودية، واستولى أتباع الاتحاد والترقي على الحكم وأصبحت كل السلطات في أيديهم مع إقصاء شبه كامل للسلطان، وقد ترتب على هذا التحول الكثير من التبعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وأخطرها إدخال الدولة العثمانية في أتون الحرب العالمية الأولى بتوجيه غربي، لتقسيم تركة الدولة العلية بعد الهزيمة التي منيت بها...
إذاً حصلت هذه الأحداث والحكم في يد القوميين الطورانيين أتباع جمعيات "تركيا الفتاة" و "الاتحاد والترقي" والذين تربوا على يد المحافل الماسونية في أصقاع الأرض وهو أمر معروف جليّ...
٢- عاش الأرمن في كنف الدولة العثمانية مئات من القرون وأطلقت عليهم الدولة العثمانية كما نقل مصطفى كمال باشا -المصري- في كتابه المسألة الشرقية لقب "الملة الصادقة" نتيجة للانضباط الكبير في صفوفهم، وعاشوا في أمن واطمئنان كاملين وانتشروا في أماكن ممتدة وظهر منهم التجار والكتاب ودخلوا في الحياة العامة والسياسية فكان منهم السفراء والقناصل حتى وصل بعضهم لأعلى منصب في الدولة بعد السلطان وهو الصدارة العظمى -رئيس الوزراء-، فما هو السر وراء هذا الانقلاب المفاجئ وكيف يمكن للدولة أن ترتكب بحق هذه الفئة مذابح مروعة بسحر ساحر وبين ليلة وضحاها؟!!
٣- التدخل الأوروبي الكبير في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية حتى وصلت بعضها لفرض حمايتها على فئة معينة من رعايا الدولة على غرار ما قامت به فرنسا من حماية للموارنة في متصرفية جبل لبنان، وبعد الحرب للعثمانية الروسية ١٨٧٧-١٨٧٨م وتوقيع معاهدة "سان ستيفانو" تم تدويل المسألة الأرمنية لتصيح ورقة ضغط جديدة على الدولة للعثمانية.
هذه الركائز يضاف عليها الحرب الإعلامية الشرسة التي شنتها الصحف الغربية والتهويل الكبير الذي لاحق كل الأعمال العسكرية في تلك المناطق مع إغفال ذكر أي اعتداء وعدوان من الطرف الآخر، سهّل انتشار أكذوبة المذابح الأرمنية وإظهار المسلمين أولاً والعثمانيين ثانياً مجموعةً من القتلة الهمجيين الذي لا يتقبلون الآخر بل يتحينون الفرص للقضاء على أتباع الديانات الأخرى.
منذ بدايات القرن التاسع عشر بدأت روسيا تدخلها في المناطق ذات الأغلبية الأرمنية عبر غطاء الكنيسة، والجدير بالذكر وجود قوانين في الدولة العثمانية تعطي الكنيسة صلاحيات هائلة في قضايا أتباعها مما سهل تحويل الكنائس من دور عبادة إلى معسكرات تدريب وتخزين للسلاح انتظاراً للثورة المرتقبة على الدولة، وقد شارك الآلاف من الأرمن إلى جانب الروس في الحرب مقابل الدولة العثمانية والتي لم تقم بأي ردة فعل تجاه الأرمن بشكل عام.
وبعد دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا وفي الوقت الذي كانت جيوشها تحارب في عدة جبهات حارب الأرمن في جبهة القوقاز إلى جوار الروس ضد العثمانيين وقاموا أيضا بالتمرد والعصيان داخل الوطن خصوصاً في مقاطعة (وان) ذات الغالبية الأرمنية مما أشغل قوات الأمن بالأحداث الداخلية.
وتنقل المصادر الأرمنية أن عدد المتطوعين المسلحين الأرمن من رعايا الدولة العثمانية الذين حاربوا ضد دولتهم إلى جوار الروس 10 آلاف شخص إضافة إلى هؤلاء المتطوعين تقدر مصادر أجنبية عدد المحاربين الأرمن النظاميين داخل الجيش الروسي بـ 150 ألف مقاتل، حتى أقر بعض الكتاب الأرمن بأنهم أصبحوا طرفا بل حليفا في صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
ولم يكتف الأرمن بتقديم مساعدات للروس للاستيلاء على مدينة "وان" بل قاموا بقتل عشرات الآلاف من المسلمين المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال القاطنين فيها، وقد أثبتت الوثائق العثمانية أن الأرمن قاموا في تلك الفترة بمجزرة حقيقية وإبادة ممنهجة بلغ ضحاياها أكثر من نصف مليون مسلم من الأتراك والأكراد والعرب.
ويذكر الكاتب الأمريكي "جاستن مكارثي" مؤلف كتاب "التمرد الأرمني في وان" الذي كتبه المؤلف بأسلوب علمي عميق وغير منحاز، ومدعوم بالوثائق، أن التمرد كان هدفه مساعدة القوات الروسية المهاجمة على احتلال المدينة والإقليم، هذا يعني أنه كان من واجب الدولة العثمانية الدفاع عن أراضيها ضد التآمر الداخلي والخارجي، ولقد قامت القوى الأرمنية بالتنسيق التام مع القوات الروسية، وكذلك مع القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية، واهمة أن تلك الدول كان يهمها أي أمر غير مصالحها الاستعمارية. هذا الوهم قاد قادة التمرد الأرمني إلى الوقوع في فخ العصبية العمياء.
يدعي الأرمن أنهم وقعوا ضحية مجزرة مهولة ولكن المصادر التاريخية تذكر أن أغلب القتلى من الأرمن قضوا على الجبهات إلى جانب القوات الروسية، كما مات عشرات الآلاف من الأرمن أيام الحرب بسبب الأمراض المعدية والبرد القارس والجوع شأنهم في ذلك شأن المسلمين أتراكاً كانوا أم كرداً من رعايا الدولة العثمانية أيام الحرب.
وقد سلم بهذه الحقيقة الناشر الأرمني "أرشاق جوبانيان" حيث قال: (لا محالة من المبالغات في مثل هذه الأزمات ولكنه ليس من الصواب بأن ندعي بأنه تم إبادة الأرمن في تركيا).
ونختم مع شهادة مهمة لأحد اللذين عاصروا بروز القضية الأرمنية على الساحة الدولية وهو مصطفى كامل باشا المصري في كتابه الحافل "المسألة الشرقية" الذي نشر في مصر عام 1909م، وقد خصص فصلاً للمسألة الأرمنية في الجزء الثاني (ص 176-250) حيث يلقى اللوم على إنكلترا في كل ما حدث ويشرح نواياها السيئة قائلا: "إن انكلترا تريد هدم السلطنة العثمانية وتقسيم الدولة العلية ليسهل لها امتلاك مصر وبلاد العرب وجعل خليفة الإسلام تحت حمايتها وآلة في يدها".
وكانت انكلترا بحاجة إلى عنصر داخلي لتحقيق مآربها فكانت الضحية هم الأرمن، إذ يقول مصطفى كامل باشا في هذا الشأن ما نصه: "ورأى العالم هذه الطائفة التي كانت تعيش في بحبوحة السعادة والرفاهية والتي كان يسميها العثمانيون بالملة الصادقة والتي لها في مناصب الحكومة والادارات وفي التجارة والصناعة الشأن الأول تثور ضد الدولة العلية".
ويقول عن دسائس الانكليز في مكان آخر: "ولكن انكلترا اشتهرت بأنها لا تقف أمام عائق لبلوغ غايتها وإدراك بغيتها فقد سلّحت الأرمن البروتستانت وألقت عليهم التعليمات بإحداث هيجان عام في كافة أنحاء المملكة العثمانية والاعتداء على المسلمين في كل بلد عثمانية ووعدتهم بالمساعدة والتداخل وإيجاد مملكة أرمنية مستقلة".
وفيما يخص قلب الحقائق والقيام بالدعاية ضد الدولة العثمانية يقول: "الحقائق تنشر في أوروبا مقلوبة وطالما اعتدى المسيحيون على المسلمين ادّعت جرائد أوروبا أن المسلمين هم المعتدون وأنهم وحدهم المقترفون لكل الآثام، وكان الانكليز يعلمون أيضا أن تدخل أوروبا في مسائل تركيا وتحزبها ضدها يملآن قلوب المسلمين غلا وكراهة ضد المسيحيين ويشجعان المسيحيين على الاستمرار في خطتهم الثورية فيزداد بذلك البلاء ويعم الدمار والفناء وتنزل المصائب على تركيا وتحل البلايا بالسلطنة العثمانية".
وينقل فيما يخص فبركة الأحداث عن الكاتب الفرنسي الفيكونت دي كورسون ما نصه: "والواقف على مسألة الأرمن بحذافيرها يتحقق لديه أنه ما من حادثة وقعت في البلاد التي اصطلح الانكليز على تسميتها بأرمينيا إلا وتكون الجرائد الانكليزية في لندن قد أنبأت بها قبل حدوثها بزمن طويل جدا فتراها تبين لقرائها نوع الحادثة التي ستقع ومكان وتاريخ وقوعها كما فعلت في حادثة وادي (تالورى) ولا يجدر بالعاقل أن يتخذ هذا الأنباء بالمستقبل ضربا من ضروب التبصر الذي امتازت به الجرائد الانكليزية بل لا بد أن يذهب في تفسير معماه إلى ما فسره به من قال أن الثورة الأرمنية أشبه شيء ببضاعة جهزها الانكليز في مجتمعاتهم السياسية وأخذوا في تصديرها حسب الطلبات إلى جهات معلومة".
إن ادعاء الإبادة ضد الأرمن أكذوبة لم يرها التاريخ وحقيقة جلية حرفتها الأقلام وشاركت وسائل الإعلام على مدى عشرات السنوات في تزييفها، حتى أضحى التكلم عن هذه القضية جريمة فسلم بذلك الجيل الجديد الذي تربى على المعلومات والمعطيات والمناهج الغربية ولم يعرفوا بأن الأرمن تواطؤوا مع الانكليز وحاربوا إلى جوار الروس ضد دولتهم وخانوا تلك العلاقة الودية التي استمرت لعدة قرون واستبدلوا بحبوحة العيش التي نعموا بها بالقتل الجماعي والإبادة الممنهجة في حق جيرانهم المسلمين الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء في الوقت الذي كان رجالهم وشبابهم يحاربون في عدة جبهات.
لذا ندعو العقلاء لمطالبة الأرمن الاعتذار عن المذابح التي قاموا بها بحق المسلمين ودفع التعويضات اللازمة وتجريم كل من يؤيد وينادي بأن هناك جريمة بحق الأرمن.
رحم الله تعالى آلاف المسلمين الذين أضاع نسياننا وجهالتنا حقوقهم التاريخية واستشهدوا في أقذر حالات طمس وتزوير التاريخ في القرن الماضي.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن