مذكرات داعية 1/2
أن تُولَد مسلماً موحِّداً وتستشعر حلاوة الإيمان منذ نعومة أظفارك تلك نعمة عظمى تستحق حمد الله وشكره عليها، وبالمقابل أن تُولَد في مجتمع مُلحِد أو يَدين بِدِين آخرغير الإسلام ثم تعتنق الإسلام عن قناعة ورغبة وانشراح صدر؛ فتلك نعمة لا تقل عظمة عن الأولى، فالمسلم الجديد إنسان مخضرم استشعر بكيانه ظلمةَ الجاهلية، واطَّلع على سوءاتها، وعانى من ويلاتها، فكان ظمؤه إلى الإسلام بالغاً، وتوقُه للنور شديداً، وشوقه للمكارم عظيماً..
كان حلماً يراودني بين الحين والآخر.. تطلعتُ بشوق لنَيله، وسعيتُ جاهدة لتحقيقه.. إنه السفر إلى بلاد غير مسلمة بغرض الدعوة إلى دين الله تعالى، ولقاء المسلمين الجُدُد، ومعرفة قصص إسلامهم، وسؤالهم عن مشاعرهم لحظة إعلان إسلامهم..
وها هي بوادر تحقُّق الحلم تلوح في الأفق بفضل الله.. فقد عُرض علينا السفر في شهر رمضان إلى: (جُزُر سيشل) بغرض الدعوة إلى الله تعالى..
استخرنا المولى عز وجل، وبدأنا بعمل الحجوزات والترتيبات اللازمة.. وقد اكتنفت رحلتي إلى جُزُر سيشل بعض الصعوبات في بدايتها، فهي المرة الأولى التي سأترك فيها أولادي مدة تعدُّ طويلة بالنسبة لي ولهم (أسبوعين)، كما أن زمن الرحلة في رمضان يجعلها مرهقة بعض الشيء.. ودّعت أهلي وأولادي وقلبي يلهج بالدعاء لهم أن يحميهم، ويعيدني إليهم سالمة غانمة..
انطلقنا أنا وزوجي صباح يوم الجمعة من مطار المدينة المنورة إلى مطار الدوحة في قطر، وقد استغرقت الرحلة ساعتين، ارتحنا في الدوحة في ضيافة ابن خالي وسعدنا بلقاء أسرته الكريمة..
بعد منتصف الليل كان موعد إقلاع طائرتنا من الدوحة إلى فكتوريا عاصمة جزيرة (ماهي) كبرى جزر سيشل في المحيط الهندي، وقد استغرقت الرحلة حوالي ست ساعات، فوصلنا الساعة السادسة بعد الفجر.. وخلال الرحلة وضعتُ مخطَّطاً لما سأقدِّمه من محاضرات للجالية الإسلامية في سيشل..
لدى اقترابنا من الجُزُر أبهرتني المناظر التي شاهدتها من خلال نافذة الطائرة، ومن أجملها منظر شروق الشمس بين الغيوم، والمحيط هادئ ساكن، والجُزُر الخضراء متربِّعة بسكون فوقه..
وصلنا مع شروق الشمس، وهبطت بنا الطائرة على مَدْرج أخضر ملاصق للبحر، كان كل شيء في هذه الجُزُر الساحرة هادئاً ساكناً.. فلا يتناهى لسمعك إلا أصوات زقزقات العصافير وتغريد الطيور بأصواتها اللطيفة وهمساتها الناعمة، يصحبها صوت أمواج المحيط المتكسِّرة على شواطئ الجزيرة تحَيِّيها بقبلةٍ لها على طريقتها الخاصة، مع نسائم عليلة تعبث بأغصان أشجار كثيفة متنوعة، فيغدو الكون نظْماً رائعاً يعجز البشر عن تأليف مثيل له.
استقبلنا أحد الإخوة من أهل المنطقة، وكان يتحدث الإنجليزية.. وأخذنا مع أحد أصدقائنا من جُزُر سيشل، ويدرس في الجامعة الإسلامية، جاء معنا من المدينة المنورة على الطائرة نفسها، وأوصلنا إلى الفندق المحجوز لنا.. وكان فندقاً جبلياً يطلُّ على وادٍ أخضر، ويليه المحيط من خلف الوادي، ويمكن من خلال شُرفة مطعم ذلك الفندق مشاهدة الجزيرة بأكملها، فكان منظراً خلَّاباً.. ولكن للأسف لم يَرُقْنا ذلك الفندق بسبب بُعده عن مركز البلد، وعدم توافر الخدمات حوله..
وأخيراً وجدنا فندقاً مناسباً ارتحنا فيه استعداداً لبدء نشاطنا الدعوي في الجزيرة..
عندما استيقظنا قبل المغرب بساعة كنا أفضل حالاً، فبدأنا الاستعداد للذهاب إلى المسجد مع صديقنا للفطور مع الجالية الإسلامية..
كان المسجد صغيراً متواضعاً مكوناً من قسمين: قسم للرجال وآخر للنساء.. أنشأته الحكومة الإماراتية للجالية الإسلامية في سيشل والذين كانوا خليطاً من الباكستانيين وأهل البلد. أفطرنا وصلينا المغرب ثم تجوَّلنا قليلاً في مركز المدينة، وتناقشنا مع صديقنا حول البرنامج الدعوي الذي سنقوم به أثناء إقامتنا، وقد تَقرَّر أن يصلي زوجي التراويح في المسجد الثاني في سيشل، ويدرِّس القرآن صباحاً وعصراً في المسجد الرئيسي، أما أنا فعلي إلقاء محاضرة في الصباح، وتدريس القرآن في العصر في المسجد الرئيسي أيضاً. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما علمت أنه يتوجَّب عليَّ إلقاء المحاضرات باللغة الإنكليزية؛ إذ لا وجود لمَن يتحدث العربية من الأخوات، فالجميع هنا في سيشل يتحدثون الإنكليزية بالإضافة إلى الفرنسية ولغتهم الخاصة، ولم يكن ذلك في حسباني إذ خطَّطتُ لإلقاء محاضراتي باللغة العربية ثم تترجم بعدي إحدى الأخوات.
في يومنا الأول استيقظنا قبل الفجر وتسحَّرنا ثم صلينا الفجر وخرجنا لنتمشى قليلاً..
في العاشرة كان موعد لقائي الأول مع الأخوات، عرَّفتهم في البداية بنفسي، وأبديتُ لهم إعجاباً شديداً بالجالية المسلمة وببلدهم الجميل وبالجو الرائع البديع.. ثم بدأنا بالقراءة الجماعية لبعض السور الصغيرة، ثم شرحت لهن بعض الأفكار البسيطة منها ثم قرأناها فرادى.. وفي أثناء ذلك شرحتُ لهم بعض مبادئ التجويد..
بعد صلاة التراويح نزلنا نتمشى على ساحل البحر.. ومع أن الظلام كان دامساً إلَّا أننا تشجَّعنا، ولا سيما أنَّ أهل البلد أكَّدوا لنا أن الأمن سائد ولا خوف علينا، كما أخبرونا أن الفنادق ينبعث منها أضواء على المحيط تُنير لنا طريقنا..
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المسجد في تمام العاشرة لأبدأ أُولى محاضراتي معهنَّ، وأحسبها كانت موفقة بحمد الله.. تحدثت فيها عن هدف المسلم والغرض من وجوده في هذه الحياة، وتفاعل الأخوات معي بمداخلاتهن وأسئلتهن، وكان من بين الحضور أطفال فوق سن الثامنة، فحاولت مشاركتهن في المحاضرة عن طريق سؤالهن بعض الأسئلة المناسبة لأعمارهن ممَّا له علاقة بموضوع المحاضرة، ثم سألتهن عن سيرة رسول الله [ وأصحابه رضي الله عنهم، كما سألتهن عن أسمائهن ومعانيها، والملاحظ أن أغلب أسمائهن عربية..
اتفقتُ بعد ذلك مع الأخوات أن يخصَّص يوم لفقه المرأة، ويوم لمحاضرة إسلامية أختار أنا موضوعها، فوافقن على ذلك.. وبعد العصر عدنا إلى المسجد مرة أخرى لقراءة القرآن مع الإخوة والأخوات..
ومن المواقف الطريفة التي وقعتْ لي في هذه الجُزُر ما واجهتُه مع حشراتها، حيث صادفتُ مرةً عنكبوتاً كبيراً بحجم الكفّ..
أخبركم في مقالي القادم كيف تخلصت منه وماذا فعلت في اليوم الثالث..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة