داعية فلسطيني ومفكّر | الكويت
ليس من شكٍّ بأن القرآن الكريم عربيُّ اللغة والبيان، فقد قال الله: (إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً)، (وكذلك أنزلناه حكماً عربيّاً).
وقد أثار بعضُ العلماء قضيةً ذات صلة بعربية القرآن الكريم؛ فتساءلوا: هل بقيت بعض الألفاظ القرآنية مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الحج، الشرك... الخ؛ في حدود مدلولها اللغوي؟ أم إنها أصبحت مصطلحات ذات مدلولات خاصة بعد أن أعطاها الشرع معاني أخرى؟
لقد أجاب المعتزلة عن السؤال السابق: بأنَّ تلك الألفاظ بقيت في حدود مدلولها اللغوي، وعلينا أن نفهم معناها اللغوي لنحدِّد معناها الشرعي، واستشهدوا بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّنَ لهم)، فهُم يرون أنَّ كلَّ نبيٍّ أُرسل بلغة قومه ليوضِّح لهم دينهم، ومقتضى ذلك أن يكون هناك تطابق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للكلمات التي يدعو إليها النبي، فالرسول محمد [ دعا إلى الإيمان، والإيمان لغةً هو التصديق، ودليل ذلك قوله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام: (وما أنت بمؤمِنٍ لنا)، بمعنى: "وما أنت بمصدِّق لنا"، فيكون الإيمان هو التصديق في مذهبهم، ولا يدخل العمل فيه؛ لأنَّ اللغة لا تقتضي ذلك.
ولكنّ علماء آخرين مثل: الشافعي، وابن حنبل، وغيرهم خالفوهم وقالوا: صحيح أنَّ القرآن الكريم عربيُّ البيان، وأنَّه استخدم ألفاظاً وكلمات عربية، لكنَّه جعل بعض هذه الألفاظ مصطلحات، بحيث أصبح معناها الشرعي مختلفاً عن معناها اللغوي. فالإيمان لغةً هو التصديق؛ لكنَّ الشرع جعله مصطلحاً، فأصبح يعني بالإضافة إلى التصديق بالله؛ الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأصبح يستلزم عبادة الله وحده، وطاعة رسوله [، وولاء المؤمنين، ومعاداة الكافرين، وخوف نار الله، ورجاء جنته.. الخ، فشتَّان ما بين الإيمان لغة واصطلاحاً.
والصلاة تعني لغةً الدعاءَ والصلة، لكنَّ الشرع جعلها مصطلحاً، فأصبحت تعني بالإضافة إلى دعاء الله تعالى والصلة به؛ التطهر قبلها، وأداءها خمس مرات في اليوم، وتتضمَّن القيام والركوع والسجود، والتوجه فيها إلى القبلة، وأن يؤديَها المصلِّي في مكان طاهر وثياب طاهرة.. الخ. فشتَّان إذاً ما بين الصلاة لغة واصطلاحاً.
والزكاة تعني لغةً النماء والتَّطهر، ولكنَّ الشرع جعلها مصطلحاً، فأصبحت تعني بالإضافة إلى النماء والتطهر؛ إخراج المسلم قسماً مِن أمواله بنصابٍ معيَّنٍ في زمن معين، والتصدُّق بمقدار معيَّن من أنعامه إذا بلغت نصاباً معيَّناً، فشتَّان ما بين الزكاة لغة واصطلاحاً. وقِس على ذلك كثيراً من الكلمات التي نقلها الشرع من معناها اللغوي وأصبحت مصطلحات شرعية ذات مدلولات مختلفة، مثل: الكفر، الشرك، الإسلام، الوضوء، التيمُّم.. الخ.
وقد نحا بعض الكتَّاب المعاصرين كأبي الأعلى
المودودي والدكتور محمد شحرور نحو المعتزلة في التعامل مع بعض الكلمات القرآنية، وتوقَّفوا عند مدلولاتها اللغوية، فسنوضِّح الكلمات التي درسوا معانيها اللغوية، ونتائج ذلك على كتاباتهم.
لقد درس أبو الأعلى المودودي أربعة ألفاظ، هي: الإله، الرب، العبادة، الدِّين، في كتابه المشهور "المصطلحات الأربعة في القرآن"، والذي ألَّفه في مرحلة مبكِّرة من حياته عند إنشائه الجماعة الإسلامية قبل قيام باكستان عام 1947م.
وقد اعتبر المودودي في كتابه قلَّةَ الذوق العربي السليم ونضوب مَعين العربية سببين في عدم إدراك المعاصرين معاني تلك الألفاظ ومدلولاتها، فاتّجه إلى المعاجم لينقل منها معاني تلك الألفاظ، فتبيَّن له أن المعنى الرئيسي الذي يشتمل عليه لفظ الإله هو السُّلطة، فالذي لا سُلطة له لا يمكن أن يكون إلهاً، ولا ينبغي أن يُتخذ إلهاً، وأمَّا من يملك السُّلطة فهو الذي يجوز أن يكون إلهاً، وهو وحده ينبغي أن يُتخذ إلهاً. وأمَّا لفظ الرَّب فأوضح أنَّ القرآن الكريم جعل الربوبية مترادفة مع الحاكمية والملكية. وأمَّا لفظ العبادة فذكر له ثلاثة معان؛ هي: العبدية، والإطاعة، والتأليه. أمَّا الدِّين فاستخلص له أربعة معانٍ أساسية؛ منها: القهر والغلبة من ذي سُلطة عليها، والإطاعة والتبعية والعبودية من قِبَل خاضع لذي السُّلطة.
فكانت النتيجة إبراز صفات معيَّنة من صفات الله؛ هي صفة الحكم والغلبة والقهر والسُّلطة، وإغفال صفات أخرى كثيرة، منها: الودُّ، الرحمة، الكرم، الرَّأفة، العلم، الخبرة، الحكمة.. الخ.
وترتبت نتيجة أخرى؛ هي أنَّه جعل العلاقة بين المسلم والله علاقة طاعة من المسلم وحكم من الله تعالى؛ لكن هذا جانب واحد من جوانب علاقة العبد بالرب، وهي أوسع من ذلك، فهي أيضاً علاقة حُبٍّ، ورجاء، وتعظيم.. الخ.
أمَّا الدكتور محمد شحرور فقد تناول في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" ألفاظاً متعدِّدة أكثر ممَّا تناوله المودودي، منها: الكتاب، القرآن، الرَّسول، النَّبي، الرَّب، الإله، الشيطان، الصور، الذِّكر، الفرقان، الساعة، الزمن، الدائم، الوقت، الباقي.. الخ. واعتمد اللغة في استنباط معاني كلِّ الألفاظ التي تعرَّض لها، ولم يفرِّق في دراسته لتلك الألفاظ بين اللفظ المصطلح الذي أعطاه الشرع معنىً محدَّداً واللفظ العادي الذي يمكن أن يستقرئ معناه من معاجم اللغة. فمثلاً: الرب، والإله، والرسول، والنبي، والكتاب، والقرآن.. الخ؛ هي مصطلحات أعطاها الشرع معنىً معيَّناً، فيجب أن يأخذه ويقف عنده، ثم يبني عليه. أمَّا الألفاظ الأخرى مثل: الزمن، الدائم، الباقي، الوقت.. الخ؛ فيمكن أن يستقرئ معناها من معاجم اللغة، ثم يبني على ما يصل إليه.
إنَّ عدم أخذه بالحقيقة السابقة _ التي هي حقٌّ لكل مذهب ودِين في أن يصطنع ألفاظاً معيَّنة ويعطيها المعاني الخاصة التي تكون مفتاحاً لفهم فضائه الفكري _ جعله يبتعد عن معالجة بعض القضايا المعالجة الصائبة التي تستحقها، ويخطئ في بعض الأفكار التي أطلقها في مجال العلاقة بين الله والناس، وفي مجال تأثير الشيطان في الناس، وفي مجال صورة العلاقة بكتاب الله، وفي مجال تصوُّر اليوم الآخر.. الخ.
الخلاصة: لا شك أنَّ من حقِّ كل مذهب ودين أن يتخذ مصطلحات خاصة به تكون مدخلاً لفهمه وإدراك معطياته الفكرية، ولم يشذَّ الإسلام عن هذه القاعدة، لكننا نجد أنَّ المعتزلة قديماً وبعض الكتَّاب حديثاً لم يراعوا هذه القاعدة، بل اتخذوا منهجاً مغايراً يقوم على اعتماد اللغة وحدها في فهم الكلمات القرآنية، وقد طبَّق أبو الأعلى المودودي هذا المنهج على أربع كلمات فقط، في حين أنَّ الدكتور شحرور طبَّقه على كل الكلمات القرآنية؛ ممَّا أدَّى إلى الابتعاد عن الصواب في بعض التَّصورات والأحكام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
داعية فلسطيني ومفكّر | الكويت
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة