داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
الشيخ المَلاذْكرْدي الزاهد... شمعة لا تنطفىء
كتب بواسطة يوسف القادري
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
1654 مشاهدة
هو محمد زاهد المَلاذْكرْدي نِسبةً إلى بلدته "ملاذكرد" أو "ملازكرد" التي خَلَّدت ذكراها "معركة ملاذكرد" (463هـ = 1071م).
التقى والدُه بالإمام النورسي فدعا له أن يبارك الله في نسله.
• نشأته العلمية: كانت في الحقبة الإيتاتوركية، فالمدرسة التي تلقَّى فيها "علوم الآلة" والعلوم الشرعية كانت غرفة سِريّة تحت الأرض! تُقدِّم هذه "المدرسة" له يومياً رغيفاً سميكاً مِن خُبز الذُّرة لا غير! وعند مداهمة شرطة إيتاتورك تسارع امرأة لتنذر الْمُلَّا الذي يدرِّسهم [الْمُلاّ بالكردية: الشيخ]، وتغطي فوهة الغرفة بِكومة مِن القش، فإن عقوبة هؤلاء أو مَن يجدون عنده نسخة من المصحف في قانون تركيا الديمقراطية الحديثة هي: الموت أو الموت.
بعد تلقِّي أسس العلوم قرر الْمُلَّا محمد زاهد أن يفرِّغ حياته لنصرة الإسلام زاهداً في الشهوات؛ فاستأذن والديه ليسافر لخدمة القرآن ورسائل النور، فتجاوبا مَسرورَين، ووكَّل رعايتهما لأخيه الأكبر.
• رحلة الحج الاستكشافية: في طريقه إلى الحج سنة 1387هـ (قبل نحو 42 سنة من وفاته) زار دمشق يستكشف مدى مناسبتها لمشروعه، فطبع حاشية النورسي على متن "السُّلَّم المُنَوْرَق".
• بين دمشق وبيروت: انشرح للفكرة فغادر تركيا متوجِّهاً إلى دمشق حاملاً معه مشروع حياته "رسائل النور"؛ لترجمتها كلَّها إلى اللغة العربية. فالإمام النورسي كان يتقن 3 لغات؛ فصنَّف بعضها بالعربية والباقي بالتركية وبالكردية، أما شيخنا الملاذكردي فيتقنها جميعاً، بالإضافة إلى الفارسية، كما له اطلاع على الأُوردية.
في دمشق قدَّم بعض كتب النورسي للطباعة، ولكنها "عَلِقت" في لجان المراقبة الرسمية مدَّة طويلة فملَّ الانتظار، وتحوَّل سنة 1978م إلى لبنان حيث استقبله مفتي لبنان الشيخ حسن خالد رحمه الله في أزهر بيروت.
انتقل سنة 1982م مع طلاب الأزهر إلى المقرِّ البديل للأزهر في عرمون ليترجم الرسائل على أنغام القذائف، وقد سقط القلم من يده مرة من ضغط القذيفة.
دموع أبيه واللقاء الأخير: نعاه د. محمد خير فرج؛ وصَوَّر لقاء الملا محمد زاهد بأبيه كبير السن أبيض اللحية أمام مسجد الأزهر سنة 1983م، "وإذا بالشيخ محمد زاهد يعانقه ويقبِّل يده، ذرف الأب دموعاً غزيرة، فقال لأبيه: علمتني أن الحياة الحقيقية في جنة الخُلد!" والأب يجيبه بأنه بكى لأنه حقق أمنية جَدّه الذي مات قبل أن يرى أحفاد الصحابة!
• بين الأَزْهَرَين: وبعد سنة 1995م دُعي للتحوُّلِ إلى أزهر البقاع في مجدل عنجر، حيث أتيح لي اللقاء به بضع مرات.
اضطُرّ للتحوُّلِ إلى برِّ الياس البقاعية، فأحسن بعض أهلها استقباله. وكان يدعوني لزيارته هناك؛ إلا أن دراستي في بيروت كانت تعيق ذلك. حتى كان اليوم المقدَّر فوصلت إلى برِّ الياس منتصف الليل، وبَدَا لي أن أبيت عنده ظانّاً أنني سأحظى بجلسة نورسية قصيرة ثم أنام.
كنتُ مرهقاً فأكرمني بالعَشاء، وهو يتناول وجبة مشبعة واحدة في اليوم عندما يعضُّه الجوع، وعندما اعتذرت إليه من الزيارة المتأخرة أخبرني أنه ليس له وقت نوم محدَّد؛ فهو ينام عندما يثقله النعاس.
كان يومها قد أنجز ترجمة كل رسائل النور إلى العربية، وأراني بعض مخطوطات ترجمته بخطه النسخي الرائع، وكان يخطها باللونين الأزرق والأحمر بكلِّ عناية.
وأخبرني بأنه بقي أمامه ترجمة رسائل النور إلى التركية والكردية! رَجُل تجاوز الستين ينجز مشروعاً قد تعجز عنه المؤسسات، فيتحول إلى مشروع آخر لا يقل عنه؛ بل كان يرغب في تعلم الطباعة على الكومبيوتر رغم كبر سنّه؛ ليصفَّ رسائل النور بنفسه! هِمَّة لا تَفْتُر!
وكلما غَلَبني النومُ وأُغْمِضَتْ عينايَ هَزَّني بشدته الكردية قائلاً: أنتَ شاب! قُمْ. لقد عرَّفني "منهج الإصلاح والتغيير عند النورسي" وقارنه بمناهج الإخوان، فكان يُجِلُّ الإمام البنا، وينتقد في أداء بعض أتباعه استعجال العمل السياسي، وتباين الألوان العقائدية المنضوية تحت لوائهم.
والمَنهج النورسي هو نشر (رسائل النور) لتنوير العقول بنور الإيمان فينعكس على السلوك. إنه لا ينتظر مجتمعاً ملائكياً؛ بل يعتبر أن الدعوة تكون قطعت شوطاً مهمّاً في طريقها إلى تطبيق النظام الإسلامي إذا وصلت نسبة كبيرة من المجتمع إلى تجنب الكبائر والتزام الشعائر والواجبات، وعندها يبدأ دور العمل المؤسسي، فإذا وصل أكثر المجتمع إلى هذه الحالة الدينية؛ يتحول من القاعدة الشعبية إلى تطبيق الشريعة في الحكم.
وبعد الاستماع إلى نشرات الأخبار من الراديو صلينا الفجر لنكمل الجلسة إلى السابعة صباحاً؛ فغادرتُ باحثاً عن أقرب فراشٍ للنوم.
وفي بيروت زار المنتدى للتعريف بالإسلام، ثم صحِبْتُه إلى إحدى المؤسسات لمتابعة طباعة الرسائل، كان في قِمة المرض لكنه أبى إلا المشي. أَلحَّ محبُّوه ليدخل المشفى فقال: (إن التداوي جائز، ولكني أعالج نفسي بالقرآن والأذكار).
وكان يومها مسروراً بأن رسائل النور صارت على الإنترنت. "كان يأمل أن يلقى الله في بيت المقدس!" كما أخبر د. بسام الطراس، فما لبث أن أقام في صيدا. حمل معه بعض الشباب وطلاب -العلم- مسؤولية الإخراج والطباعة والفهرسة، فأتم ترجمة رسائل النورسي كاملة إلى اللغات الثلاث.
ودَّع تلميذَه يوم الخميس بشكلٍ مختلف؛ فقد حذّره من الغفلة عن الموت، فهو مجرد انتقال مِن الدنيا إلى الآخرة... ثم خلع معطفه وألبسه إياه وضمه إليه مودِّعاً باكياً على غير عادة!!
وفي اليوم التالي تخلّف الشيخ عن موعده على صلاة فجر الجمعة 22 محرم 1429هـ (1/2/2008م) في مسجد الشهداء، فإذا به قد توفي على فراشه على هيئة السُّنَّة في النوم متوجهاً إلى القِبلة مشيراً بأصبعه السبابة!
لكنه لم ينطفئ: ليس للشيخ أولادٌ، فهو من "العلماء العُزَّاب الذين آثروا العلمَ على الزواج" ولكنْ بكاه أولاده الروحيّون، وصلَّوْا عليه ودفنوه السبت، وبقُوا امتداداً له، كما تَرك كتبَه علماً ينتفع به رحمه الله.
ويبقى مثلاً في علو الهمة وتحدي العقبات.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن