قد لا يكون الأمر كما تعتقد! قد يكون له أبعاد أخرى – غير تقليدية – لو حاولت أن تغوص في فكرة الإمتناع عن الطعام والشراب وكل ما يضر الروح والقلب من معاصي وعادات سيئة، فحقيقة الصيام قد تكون أعمق بكثير لو فكَّرنا به من ناحية أخرى فلسفية، لنجد أننا خلال الصيام نمتنع عن العوائق التي تحول بيننا وبين أنفسنا وقدراتنا الذاتية الكامنة والتي لا نعلم عنها الكثير، إما بسبب الروتين – الغير الصحي – الذي يُحيط بنا طيلة أشهر السنة الباقية، أو بسبب جهلنا بها، وفي كلتا الحالتين ستحتاج إلى وقفة مع نفسك – غير اعتيادية – لتكتشفها.
خلال الصيام يمكننا أن نُزيل كل ما يؤخرنا ويمنعنا من التقدم من خلال كسر الروتين والخروج خارج صندوقه اليومي الذي يحول بيننا وبين أفق الإنجاز والإبداع الحقيقي.
ما الذي يحدث لنا عندما نصوم؟ تفرغ المعدة من الطعام والقلب من الضغينة واللسان من الرذيلة، ويدخل الجسد والقلب معاً في حالة نقاهة تنتعش من خلالها الروح يوماً بعد يوم، الأمر الذي يُتيح المجال أمام العقل ليصل إلى مرحلة متقدمة من التفكير لو أحسن الإنسان التدبير ولم يجعل من فرصة الصيام ألماً وأسىً وتعكيراً.
لو راجعت حياتك السريعة والمزدحمة، ستجد أنك لن تحظى بفرصة شبيهة برمضان لتتخلص فيها من كل ما هو ضار وقبيح. فمن تجربتي – العميقة – مع المعدة الفارغة، خصوصاً بعدما خسرت ٤٠ كغم من وزني، الرحلة التي ابتدأت في رمضان عام ٢٠١٢م، وجدت أنَّ منطقة الإبداع في العقل لا يمكن لها أن تعمل مع معدة ممتلئة، فعندما يقل الهواء ويزداد الطعام، يتعب القلب ويضعف عمل العقل والجسد، فكما يُقال في الغرب (المعدة بيت الطاقة)، ولا تكون كذلك إلاَّ إذا كانت شبه فارغة.
تذكر ما الذي يحدث معك بعد تناول طعام الغداء في العمل؟ تخبو طاقتك وتنطفئ شمعتك، لتجلس بعدها تعد الساعات المتبقية للذهاب إلى المنزل، لذلك تجد ساعات العمل الأولى هي وقت الإنجاز الحقيقي، فمتوسط عدد الساعات الفعلي لكل موظف لا يتعدى الثلاث ساعات في اليوم، والباقي وقت ضائع!
بالتأكيد لا يمكن حصر فوائد صيام شهر رمضان في مقال أو وجهة نظر واحدة، ولكن من الفوائد التي لا تنتبه لها ولا يُدركها عقلك هو أنك تستطيع أن تحيا من وقت دخول الفجر إلى وقت الغروب من دون طعام ولا ماء ولأكثر من يوم وأسبوع، كما يمكن لقلبك أن يحيا من دون ضغينة ولسانك من دون نميمة لو أردت ذلك! فالعملية اختيار حتى وإن كان ظاهرها فرض وإجبار، فهو اختيار قمنا به بمحض إرادتنا عندما آمنا بالله ورسوله، فلماذا لا يكون هذا شأننا طيلة أيام السنة؟!
كلما أدخل في حالة الشبع المتعب.. تذهب طاقتي وينهار جسدي، وكلما يدخل قلبي في حالة الغضب والحقد والحنق.. تنهار روحي ولا أقوى على التفكير كما ينبغي، وبالتالي لا يمكنني أن أؤدي أياً من الأعمال بشكل متميز، والإبداع سيصبح حلم صعب المنال!
عندما ندخل في حالة الصوم، نترك كل ما هو ثانوي ونبحث عن كل ما هو أساسي في حياتنا، تُصبح الأولوية لأمور ذات قيمة ونضع على الرف كل ما هو عديم الفائدة، الأمر الذي يمنحك مُتسعاً من الوقت لينقلك إلى مرحلة متقدمة من التفكير، ستنظر إلى الأمور بشكل مختلف وستسأل نفسك: (مادام الأمر ممكناً لأحيا بكمية طعام قليلة، وقلب صافي ولسان ذاكر، فلماذا لا أقوم بكل هذا قبل رمضان وبعده؟!)، الصوم سيمنحك الفرصة كي تعلم أين الخلل، هل هو فيك؟ هل هو في بيتك؟ هل هو في صحبتك؟ هل هو في مجتمعك؟
أليس هذا ما نفتقده طيلة باقي أيام السنة؟ أليس هذا ما ينقصنا كي نصحح حياتنا ونفهم لماذا هي تعيسة بهذا الشكل؟ أليس شهر الصوم فرصة ذهبية لكسر الروتين الضار كي نستيقظ ونسأل أنفسنا:
لماذا نجلس مع أناس لا نحبهم؟
لماذا نذهب إلى أعمال لا نحبها؟
لماذا نأكل ونحن في قمة الشبع؟
لماذا أوقاتنا ضائعة على أمور ثانوية تقتلنا ببطء؟
لماذا نمارس الرذيلة ونحن رافضون لها وفي غنىً عنها ونرفض انتشارها؟
لماذا نراقب الناس ونحسدهم، ونتمنى ما عندهم في الوقت الذي يمكننا امتلاك ما يمتلكونه؟
لماذا نتعجب من قدرات مَن حولنا في الوقت الذي لم نحاول أن نكتشف إن كنا نمتلك مثل تلك القدرات أم لا؟
نحن أنفسنا أول ضحايا الأحكام المُسبقة عندما حكمنا على أنفسنا أننا لا نمتلك أي قدرات، وأننا سنموت إن لم نأكل حتى الشبع، وأننا لابد أن نحمل في قلوبنا الحقد على كل مَن يؤذينا، نحن مَن وضعنا – طوعاً – أغلال ذلك الروتين القاتل من إفرازات مجتمعات مريضة.
اليوم لديك الفرصة لتكسر ذلك الروتين وتبحث عن نفسك.. حاول أن تجدها، إطفئ التلفاز واستلقي على الفراش، اجلس خالي المعدة من الشبع وخالي القلب من الضغينة.. وفكَّر! أنظر إلى الجدار الأبيض في منزلك واسرح في أعماق نفسك لتكتشفها، حاول أن تعيش دور البطولة مع ذاتك المُهملة، عندما تكسر الروتين وتختلي بنفسك خلال الصيام، سترى في نفسك أموراً ما كنت لتراها قبل ذلك، سيتحوَّل الجدار الأبيض إلى فيلم سينيمائي يستعرض حياتك أمام عينيك، وستنتبه وقتها إلى ما فاتك وتفهم ما كان عصياً عليك فهمه.
مارس هذه العادة الجديدة لمدة ساعة خلال الصيام، وفي كل يوم ستقترب من نفسك الحقيقية أكثر فأكثر، تلك النفس الطيبة التي خلقها الله من روحه وفطرها على الخير، وعندما تنتهي تلك الساعة.. ستصبح أفضل ساعة في يومك، وستفهم وقتها ما هي الأمور المهمة في حياتك، وستعلم أنَّ أطفالك يكبرون بسرعة وأنت لا تشعر، وها هم على مقربة من باب المنزل ليُغادروه بحثاً عن حياة، وأنت مشغول عنهم بما هو ثانوي وتافه!
فقط إسرح في الحائط ساعة وأنت صائم.. وستفهم ما أقول!
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة