فلسطيني بجواز إسرائيلي.. كيف يعيش الفلسطينيون داخل دولة الاحتلال؟
شاركت بهذه المقالة في كتاب "مملكة الزيتون والرماد" (Kingdom of Olives and Ash) عن دار نشر هاربر-كولنز الأميركية، بمشاركة الكاتب العالمي ماريو فارغاس يوسا، وفيه شهادات 26 كاتبًا عالميًا عن الاحتلال الإسرائيلي في ذكرى مرور 50 عامًا على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. لاقى الكتاب نجاحًا كبيرًا ووصل إلى قائمة "واشنطن بوست" للكتب الأكثر مبيعًا. وقد سلطت الضوء في المقالة على وضع فلسطينيي الداخل، بالإضافة إلى وضع السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتم نشرها أيضًا في "London Review of Books". ترجم الكتاب إلى تسع لغات، منها العربية، ونشر في فلسطين عن منشورات "قديتا".
نص المقال
"أريدها!" هكذا أخبرتُ السيدة بعد نظرة خاطفة في أرجاء الشقة الفارغة. أربكني امتناع تقاسيم وجهها عن إبداء ابتسامة أو إيماءة اتفاق. كانت تطالعني بتفحص حين طرقت باب مكتبها الموارب قبل بضع دقائق. وأدركتُ في تلك اللحظة أنها كشفت أمري. لكنني ألقيت عليها، وبصدر رحب، "صباح الخير."
كانت حزمة الأبنية الجديدة مشيدة في موقع مثالي: في منتصف الطريق ما بين قريتي و"نهاريا"، وهي بلدة ساحلية صغيرة في الجليل. أردت هذا الموقع بالتحديد لأنني سأكون على مقربة من والديّ، ومقر عملي والشاطئ في الوقت نفسه. كثيرا ما كنت أعرج بسيارتي على الموقع عندما كانت الشقق لا تزال قيد الإنشاء، وما إن تم الإعلان عنها للإيجار، حتى جئت لأرى إمكانية الظفر بواحدة منها. كنت لِأنهي عملي يوميًا وأذهب إلى البحر...
"هل أستطيع مساعدتك؟" سألتني السيدة مواصلة تقييمي. أخبرتها بأنني أرغب في رؤية إحدى الشقق السكنية المعروضة للإيجار. غير أن لكنتي كانت كفيلة بالكشف عني كعربية، وبدا أن هذه الحقيقة لم ترُقها. لكنني بت معتادة على هذا النوع من التحفظ، الذي أقابله بابتسامة توحي بأنني لم ألحظه. تناولت السيدة حزمة مفاتيح في يدها ورافقتني خارج المكتب، صوب إحدى البنايات. "ثمة شقة واحدة هنا،" أشارت لي. "واحدة؟ سيدتي لا يزال المجمع خاليًا تقريبًا..." قلت لنفسي.
كانت الخيبة عندما فتحَت باب الشقة؛ كانت جديدة ومشرقة لكنها صغيرة. سألتُها عن شقق بمساحة أكبر، فأجابت "هذا كل المتاح." حسنًا... لم يكن باستطاعتي مقارعة النظام. واقع الأمر، أمكنني ذلك، لولا معرفتي أنه سيكون جدالًا عقيمًا. آثرت أن أبتسم وأسألها عن مبلغ الإيجار. لكنها استدركت: "عليّ الاستفسار عن أمر أولًا؛ من أين أنت؟"
قرية فسوطة في الجليل
بما أننا في إسرائيل، فإن فظاظة السؤال لم تستوقفني. "أنا من فسوطة، إنها قرية تبعد حوالي 20 دقيقة عن هنا، قربَ 'معالوت‘." لأن الإشارة إلى قرى عربية كانت عديمة الجدوى اضطررت للإحالة إلى قرية يهودية. أومأت لي بسحنة يكسوها التجهم: "إذًا، سيكون عليك جلب اثنين من المعرّفين، وبعدها سأتوجه إلى الجيران للتأكد منهم."
"الجيران؟" تساءلتُ. عللت السيدة بقولها: "أجل، عليّ سؤالهم فيما إذا كانوا لا يمانعون بعيشك بينهم. لأنه، أعني... لم تُعط شقق سكنية لعرب هنا. لكن، في حال لم يمانع الجيران وجودك، سيكون بوسعنا المتابعة. سأدسّ طلبك ونرى كيف تسير الأمور، بهدوء..." قالتها بنبرة خفيضة توحي بأنها تقدم على استثناء خاص، من أجلي. كظمت غيظي، شكرتها، ومضيت في حال سبيلي. كانت هذه نهاية الأمر. لم أكن لأحصل على إذن من الجيران لاستئجار شقة. وكانت هذه الواقعة من بين أسباب عدة دفعتني، بعد مدة وجيزة، للانتقال إلى رام الله في الضفة الغربية المحتلة. إن الموقف الذي عبرت عنه هذه السيدة هو تصوير نموذجي لطريقة تعامل الدولة معي، أنا وأكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني آخرين يعيشون في إسرائيل.
نحن لا نعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة، إنما في "إسرائيل" ذاتها، في الجليل شمالًا، والمثلث في المركز، والنقب جنوبًا، كافة المناطق التي هوجمت من قبل الميليشيات اليهودية في 1948 في فلسطين، والتي أضحت تسمى إسرائيل. نحن أحفاد من ظلوا بعد نكبة 1948. بعد محو فلسطين، شيدت على أنقاضها دولة إسرائيل الجديدة، التي وجدت نفسها عالقة مع حوالي 15 بالمئة من السكان الفلسطينيين الذين لم تتمكن من إخراجهم مع الآخرين، لتفرض عليهم، عوض ذلك، المواطنة الإسرائيلية وتخضعهم لحكم عسكري قاس استمر قرابة ثمانية عشر عامًا، حتى 1966، في محاولة سحق أي هوية فلسطينية أو مطالبات بالعدالة، ولمنع أي فلسطيني طردته من العودة. ألغت إسرائيل العمل بنظام الحكم العسكري قبل حرب 1967 واحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، لتعاود فرضه على سكان هذه المناطق بعد احتلالها. في خضم ذلك، أدركت أنها عالقة مع الفلسطينيين القاطنين ضمن حدودها وأن عليها البدء في "إدماجهم" في المجتمع الإسرائيلي. بعد خمسين عامًا، باءت هذه الجهود بالفشل، ونحن نشكل اليوم عشرين بالمائة من مجموع سكانها.
لا يعرف معظم من يعيشون خارج إسرائيل، بمن فيهم الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، الشيء الكثير عن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، حيث يتم اعتبارنا كمواطنين في أية دولة أخرى يتمتع سكانها بحياة طبيعية.
أفيق كل صباح على حقيقة كوني مواطنة من الدرجة الثانية، وربما من الدرجة الثالثة حتى، غير مرغوب فيها، ومعرَّضةً للقمع والتمييز.
ظاهريًا، نحن نحظى بـ"امتيازات" أكبر بكثير من تلك التي بحوزة أقراننا في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فمن خلال المواطنة الإسرائيلية وجواز السفر الإسرائيلي، بإمكاننا التصويت، ونمتلك السبل إلى تعليم جيد ورعاية صحية عامة ومخصصات اجتماعية، وفي وسعنا السفر بسهولة حول العالم، باستثناء بعض الدول العربية. نحن لا نعيش في مناطق محتلة عسكريًا تمزقها نقاط التفتيش، تحت التهديد المستمر باشتعال المواجهات، وتوغلات الجيش الإسرائيلي، وعنف المستوطنين اليهود. كما إننا أحرار بدراسة أي شيء نختاره تقريبًا، بما أننا نتواجد في سوق عمل كبير يتعين عليه استيعاب مهاراتنا.
لكن هذه مجرد واجهة لنظام قائم على التمييز الطبقي والمؤسساتي المستفحل. كفلسطينيين - على أي جانب من الخط الأخضر كنا - فإننا ننفق كل دقيقة من حياتنا في البلاد ونحن ندفع ثمن حقيقة مفادها أننا لسنا يهودًا.
"يحار المرء أيهما أشد إيلاما: النفي التام، أم الاضطرار إلى قيادة السيارة يوميا ورؤية ركام القرى، دون إمكانية العودة إليها."
سواء كنت في إسرائيل أم في الضفة الغربية (أنا ممنوعة من قبل إسرائيل من الوصول إلى غزة، التي تبعد مسافة ساعة بالسيارة عن رام الله، بينما يُمنع المستوطن الإسرائيلي من دخول قطاع غزة وعدة مناطق من الضفة الغربية، وفق القانون الإسرائيلي) فإنني أستيقظ كل صباح على حقيقة كوني مواطنة من الدرجة الثانية وربما من الدرجة الثالثة، غير مرغوب بها، ومعرَّضةً للقمع والتمييز، ودخيلة - كبطة سوداء في بركة آسنة. يجري تحمّلي على مضض، في أحسن الأحوال؛ يُسمح لي بالعيش هنا لأن إسرائيل لم تجد سبيلًا بعد للتخلص مني.
عندما عشت في قرية عائلتي، فسوطة، في الجليل، كانت شواهد قريتي سحماتا ودير القاسي المهجَّرتين عام 1948، في طريقي إلى العمل، بمثابة تذكيرٍ يومي باقتلاع الدولة لشعبي. سحماتا هي اليوم عبارة عن كومة شجيرات تتخللها بعض الحجارة الناتئة، نجت من الجرافات الإسرائيلية التي سوت القرية بالأرض في ذلك الوقت. أما دير القاسي فتحولت، أثناء "معجزة" قيام إسرائيل، إلى تجمع سكاني يهودي يسمى "الكوش"، يعيش بعض سكانه في المنازل القليلة التي لم تطلها يد الخراب والتدمير. ولعل مجيء هؤلاء المهاجرون اليهود من اليمن وكردستان قد لعب دورًا في تقديرهم لفن المعمار العربي الذي تركه ملّاكه الفلسطينيون وراءهم - وهي مفارقة تستدعي التأمل في حد ذاتها.
فلسطينيون من سكان مخيم عين الحلوة في لبنان (رويترز)
مذّاك، عاش فلسطينيو دير القاسي وأحفادهم في مخيمات اللجوء في لبنان، لاجئون بلا جنسية على بعد ساعة مما كان ذات يوم وطنًا لهم. في هذه الأثناء، يرعى سكان "الكوش" أبقارهم ويمتلكون أقنان الدجاج، ويزرعون الخضار ويحصدون بساتين الفاكهة، بهموم يومية مبتذلة. ويأتون حينًا إلى فسوطة للقيام ببعض التجارة البسيطة أو لزيارة الطبيب.
فلسطينيو سحماتا تم إجلاؤهم أيضًا، مع أن بعضهم تمكن من البقاء كنازحين داخليين، أي لاجئين في بلادهم. يعيش بعضهم في فسوطة وفي القرى الناجية الأخرى. يحتشدون في موقع سحماتا مرة كل عام، في ذكرى النكبة، لإحياء ذكرى قريتهم التي كانت. ويحار المرء أيهما أشد إيلامًا - النفي التام، أم الاضطرار يوميًا لرؤية ركام قراهم، دون إمكانية العودة إليها.
ثمة عشرات القرى في الجليل ومئات القرى الأخرى في أرجاء فلسطين لاقت المصير نفسه. تأملت في سكان تلك القرى، وأنا أدرك أن عبثية القدر هي التي حالت دون ملاقاتي للمصير نفسه، في مخيم بائس للاجئين، على بعد ساعة أو اثنتين، حيث يقبع ملايين الفلسطينيين دون أي أمل بالرجوع. قريتي محاذية للحدود اللبنانية، وفي كل مرة أُمعن فيها النظر في تلال لبنان، يعتريني شعور سريالي بقربهم الشديد، وبعدهم الشديد عنا في آن واحد. في أثناء ذلك، يعيش أولئك الذين انتزعوا منهم أراضيهم وبيوتهم بجواري، ويتعين علي رؤيتهم يوميًا يذهبون إلى أشغالهم كالمعتاد.
ولا يبدو أن الفلسطينيين الباقين يحظون بدرجة عالية من الأمان، فقد دعا بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية وعدة دوائر أكاديمية وثقافية في إسرائيل مرارًا إلى ترحيل المواطنين العرب من خلال "الترانسفير السكاني" - مصطلح التهجير القسري - من بين أفكار أخرى، تضع غايتها النهائية تحقيق "نقاء الدولة اليهودية". وتتم الدعوة لذلك علنًا دون خجل أو محاسبة.
بعد مروري من قريتي دير القاسي وسحماتا، خلال طريقي إلى العمل، كنت أمر بجوار "كفار فراديم"، وهو تجمع لليهود الأثرياء يتبجح سكانه بالفيلات الأنيقة والحدائق الغناء، ونوافير المياه والأرصفة العريضة، في تناقض فج مع شوارعنا الضيقة الملأى بالحفر وافتقار قريتنا التام إلى مزايا مماثلة. في الواقع، إن هذه التفاوتات بين القرى العربية والتجمعات اليهودية في إسرائيل، التي عادة ما تكون بجوار بعضها بعضًا، جلية بحيث يكون بوسع الناظر تخمين قومية سكانها على الفور.
وثمة سببان لذلك، مؤلمان بنفس الدرجة. السبب الأول أن القرويين الفلسطينيين كانوا قد تطوروا طبيعيًا على مدى مئات السنين قبلَ التخطيط المدني الحديث. لم تعرف فلسطين، من بين بلدان شرق أوسطية أخرى، البناء المكثف المنسق على طريقة الغرب؛ فقد تطورت مجتمعات السكان ومساكنهم على مهل، إثر اتصال طبيعي وعميق بالأرض. في حين شيدت هذه التجمعات اليهودية، على النقيض، بطريقة يغلب عليها التخطيط والتناسق؛ بيوتهم عبارة عن نسخ منتظمة عن بعضها البعض، كتلك المبنية حديثًا في الغرب. تبدو هذه البيوت وكأنها هبطت من السماء في مكان القرى المدمرة، ولا أرى سوى القبح في كل ذلك الجمال والانتظام، لأنني عند النظر إليها، يتبادر إلى ذهني انقضاض المصطنع والملفَّق على الأرض. يأخذني التفكير فورًا إلى طريقة نشوئها - بالقوة العسكرية والاستيلاء، وعلى حساب طرد شعب آخر وسلب أرضه.
أما السبب الثاني، فهو أن ميزانية الدولة الإسرائيلية المخصصة للبنية التحتية والتنمية الاقتصادية في البلدات والقرى العربية، لا تذكر أمام الميزانية المخصصة للأحياء والبلدات اليهودية. ينطبق الأمر نفسه على الصحة والتعليم والإسكان والتوظيف، والقائمة تطول. ثمة مذكرة قانونية تلوح بها الدولة لترويج هذه الممارسة: يتم تخصيص الميزانيات الحكومية لكل سلطة محلية بحسب عائدات الضرائب التي تجنيها هذه السلطة، بما فيها ضرائب الأملاك والمحال التجارية. وإن أخذنا بالاعتبار أن عدد مبادرات التوظيف والأعمال التجارية في البلديات العربية هو بالكاد في الحد الأدنى، فإن الضرائب التي تجنى من هذه المناطق تكون ضئيلة أيضًا، مقارنة بتلك التي تجنيها الدولة من التجمعات اليهودية المدعومة حكوميًا. لذا، عوض تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية في المناطق العربية، تخصص الحكومة لها ميزانيات أقل - تناسبًا مع قدراتها الاقتصادية - ويستمر الدوران في الحلقة المفرغة.
المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل في حال يرثى له، المستضعفون أبدًا ضمن هذا النظام. في 1966، ألَّف والدي، صبري جريس، كتاب "العرب في إسرائيل"، الذي أصبح بمثابة وثيقة مرجعية حول الفسطينيين في إسرائيل والقمع المنهجي الممارس من قِبل الدولة ضدهم. ومن المؤسف استمرار انطباق رسالة الكتاب الجوهرية على حالهم اليوم، بعد خمسين عامًا. انتهى النظام العسكري داخل إسرائيل نفسها منذ وقت طويل، لكن مواقفها من المواطنين الفلسطينيين لا تزال هي ذاتها إلى حد كبير. تتم رؤيتنا كعدو، كطابور خامس، كتهديد ديموغرافي. مساواتنا المفترضة التي يقدسها القانون تترجم إلى نظام من التمييز المؤسساتي ينشر مجساته في كل ناحية من نواحي حياتنا. قلة في إسرائيل ممن يسائلون هذا التمييز، ووحدها منظمات المجتمع المدني التي لطالما عانت، تصدر تقريرًا تلو الآخر. بالنسبة لي، كانت هذه حقيقة أخرى لا أملك حيالها شيئًا.
بمجرد وصولي إلى العمل، كنت أغرق في حالة من الاغتراب الحاد تلازم كل نفَس لي في هذه البلاد. فقد فاقمت تعاملاتي في بيئة العمل من سوء الحالة. لم يكن في وسعي إطلاقًا تخطي ضيقي الناجم عن عملي مع إسرائيليين، مهما بذلت من جهد. كنت العربية الوحيدة من بين ثلاثين موظفًا يهوديًا أو نحوهم، لكن لم يكن هذا ما ضايقني: إنه إحساس لازمني يوميًا بأنني "محظوظة"، أو بطريقة ما، مصطفاة، لكي أكون هناك - كأنني لا أمتلك أي حق بهذه الوظيفة.
عامل فلسطيني في موقع للبناء في مستوطنة كيدار اليهودية بالضفة الغربية (رويترز)
مع أن العديد من الفلسطينيين، من أصحاب المواطنة الإسرائيلية أمثالي، يشغلون وظائف مهنية في إسرائيل، إلا أن الغالبية منهم هم الأفقر؛ مجبرون منذ أجيال، بسبب ممارسات الدولة، على العيش من الأعمال المتواضعة أو الهامشية. الإنشاءات، على سبيل المثال، إحدى أكبر الصناعات التي توظف الفلسطينيين في إسرائيل، بالإضافة إلى قطاع التصنيع. ويتم استثناؤهم إلى حد كبير من المراكز الكبرى أو ذات الدخل المرتفع في الشركات الخاصة أو المؤسسات العامة. قلة من المهندسين العرب يتم توظيفهم في شركة الكهرباء أو شركات الاتصال، على سبيل المثال، فضلًا عن استثنائهم تمامًا من صناعات الدفاع والطيران، من بين صناعات أخرى. كنت قد تكيفت مع شبه استحالة إيجاد وظيفة جيدة لي، ولم يكن بوسعي أن أصدق الأمر عندما تم توظيفي. كان الراتب أيضًا مثار دهشة أصدقائي وعائلتي عندما سُئلت عنه، لأن ما يعتبر عاديًا وفق المعايير اليهودية كان يعتبر ثروة في مجتمعنا.
"باستثناء مدن قليلة، يعيش الإسرائيليون اليهود والفلسطينيون في عزلة كبيرة عن بعضهم بعضًا في إسرائيل. وهو ما يولد مشكلة حقيقية لدى بعض الفلسطينيين، الذين تمنع قراهم وبلداتهم من التوسع الطبيعي من قبل الحكومة الإسرائيلية."
خلال عملي، سرعان ما بدأت تظهر قسمات صغيرة من الواقع. عادة ما كنت أسمع زملائي اليهود يتكلمون عن خدمتهم العسكرية، حيث يتم استدعاء معظمهم لقضاء أسابيع متفرقة في صفوف الاحتياط. كانت هناك نقاشات سياسية حادة حول اتفاقيات أوسلو الأخيرة والعلاقة مع الفلسطينيين. خلال هذا كله، كنت صامتة ومرتبكة إلى حد كبير. لقد ولدت في لبنان، وفقدت أمي وأنا طفلة بالعاشرة من عمرها في تفجير مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت بالثمانينيات، كإحدى تبعات الغزو الإسرائيلي للبنان. في 1995، جئت إلى إسرائيل إثر ما تمخض عنه اتفاق أوسلو. لم أستطع منع نفسي من التساؤل، وأنا أحدق في زملائي في الغرفة، عن عدد من خدموا منهم في لبنان أثناء الغزو الذي عشته هناك. لكنني أزحت تلك الأفكار بعيدًا عني. لقد عدت إلى هنا، وكنت بحاجة هذه الوظيفة لكي أستهل حياتي.
وكأنما لتخفيف شيئًا من اغترابي، تفتحت أواصر صداقة مع زميلة بريطانية أكبر سنًا، وجدت معها العديد من الأشياء التي بوسعنا الحديث عنها والتندر عليها. كانت يهودية هاجرت إلى إسرائيل في سن المراهقة وتزوجت من إسرائيلي محلي. في أحد الأيام، دعَوتها وزوجها إلى منزلي في فسوطة. قبلَت الدعوة بامتنان وجلبت زوجها معها، لكن سرعان ما اتضح أن الزيارة مربكة ومتوترة، لسبب لم أتمكن من التقاطه على الفور. كان الحديث متكلفًا؛ في كل موضوع تكلمت عنه كنت أتلقى ردًا فاترًا، تناولا الطعام مغادرين على عجل. قمت بتنظيف المائدة بعدها وأنا مرتبكة ومنقبضة. في اليوم التالي، في العمل، توجهت لي باعتذار، مفاده أن زوجها كان يخدم في رتبة عالية في الجيش الإسرائيلي وكان يشعر بالضيق لزيارته منزلًا عربيًا.
أذهلتني صراحتها، لكنني قدّرت لها بوحها بالحقيقة. فباستثناء مدن قليلة، يعيش الإسرائيليون اليهود والفلسطينيون في عزلة كبيرة عن بعضهم بعضًا في إسرائيل. وهو ما يولد مشكلة حقيقية لدى بعض الفلسطينيين، الذين تمنع قراهم وبلداتهم من التوسع الطبيعي من قبل الحكومة الإسرائيلية، فمع انتزاع معظم أراضيهم في 1948 تم تصنيف ما تبقى على أنها "أراضي دولة"، وتفرض الحكومة شروطًا صارمة لتنظيم الأراضي ولا تسمح بسهولة بتوسع البناء العربي ضمن الحدود المحلية للبلدات والقرى العربية.
تقع آلاف البيوت العربية تحت طائل الإزالة من قبل الدولة لكونها واقعة خارج حدود المناطق التي يسمح بالبناء فيها. فسوطة، قريتي، على سبيل المثال، تتألف من 11.000 دونم من الأراضي (كل دونم يعادل 1000 متر مربع) ضمن صلاحية مجلسها المحلي، إلا أن الحكومة لم توافق سوى على 650 دُونمًا لتوسيع البناء منذ 1988. والنتيجة هي الاكتظاظ السكاني والاضطرار للرحيل لإيجاد بيوت في أماكن أخرى. لكن العديد من التجمعات اليهودية تمنع الفلسطينيين من العيش أو حتى العمل فيها، وقد تعيّن على بعض الفلسطينيين اللجوء إلى الدعاوى القضائية لتأمين حق شراء شقة في حال وجود جيران يهود. ويعاملوننا كمنبوذين، غير مرغوب فيهم ولا مرحب بهم. وفي مثال حديث، دعا عضو يهودي في الكنسيت (البرلمان) إلى فصل النساء العربيات عن اليهوديات في أقسام الولادة، وأفيد بأن عدة مؤسسات طبية قد أخذت ملاحظته في عين الاعتبار.
في أحد الأيام، وقف رجل سأدعوه موشيه، هو أحد زملائي في العمل، بباب مكتبي الصغير، مبتسمًا يحمل فنجان قهوة. كان ودودًا معي منذ اليوم الأول. تبادلنا أحاديث قصيرة حول العمل. اتكأ على الباب، كما لو أنه يتفحصني بتساؤل بينما يرتشف قهوته. ثم قال بشيء من التمعن: "أنت لست مثل بقية العرب، ها؟ لقد صنعت من نفسك شيئًا..." اجتاحني الصمت وأنا أتساءل عما إذا كان هذا إطراء، بما أنه اصطفاني عن بقية أبناء عرقي "المتخلفين الفظّين". كيف كان يفترض بي أن أرد؟
"أتعرفين، أنت مسيحية..." تابع بنبرة خافتة، مقحمًا رأسه أكثر، كما لو كان يشاركني سرًا قيّمًا. "أنت مختلفة. ليست لدينا مشاكل معكم!" إذًا فقد كنت أتلقى إطراءين، كما بدا لي. فقد أخذ موشيه على عاتقه منحي ختم الموافقة على اثنين من الاعتبارات، بما فيهما عدم كوني مسلمة. حدقت به وأنا أفكر في مدى الخطأ في هذه الملاحظات، وكيف كانت لتُستقبل في أي بلد آخر، بينما فشلت كليًا في الشعور بالامتنان التي كان يفترض بها أن تولده عندي.
في نهاية يوم العمل، رتبت للقاء ابنة عمي للقيام بجولة في مركز التسوق في حيفا. دردشنا في سيارتها الصغيرة ونحن نستمع إلى الأغاني العربية ونتبادل أخبار القرية وموسم الزفاف المقبل. لوهلة، انتقلت من واقع البلاد إلى عالم عشت فيه في وطني، فلسطين، حرة من إسار العنصرية والتمييز. لكن الحُلم تمزق، كما يفعل دومًا، في اللحظة التي دخلنا فيها ركن موقف السيارات. كانت الإشارات باللغة العبرية في كل مكان. لم يكن ثمة وجود لأي إشارة بالعربية داخل مركز التسوق، مع أن المركز يخدم في غالبيته المتسوقين الفلسطينيين من قرى الجليل المجاورة، ومع أن العربية هي اللغة الرسمية الثانية للدولة. مضينا إلى أحد المحال نشعر بذلك التوتر المألوف عند الحديث بلغتنا. لكنني لم أكن لأتحدث إلى ابنة عمي بالعبرية. وعليه، فقد تكلمنا بالعربية، وإن كانت أصواتنا قد انخفضت لا شعوريًا.
"في معظم تعاملاتي مع الإسرائيليين، أستشعر طاقة عدائية لا يبذل أصحابها جهدًا في إخفائها، أو شكًا حذرًا، أو في أفضل الحالات، التسامح الكريم معنا نحن "السكان الأصليين"، من الذين يتكرمون علينا بالسماح لنا بالبقاء في أرضنا."
عند رؤية المُساعِدة، أشرت إلى أحد الفساتين وسألتها عن المقاس المناسب لكي أجربه. "هذه القطع هي الأخيرة!" قالتها لي بتكشيرة ثم مضت. شعرت بالضيق، لكن كون هذه إسرائيل، لم يكن ردها الوقح ليشكل أي مفاجأة. وقاحة الناس ملمح معروف للبلاد، ولسبب ما، فإنها تستدعي رد فعل فكاهي في أوساط الإسرائيليين أكثر من الاستنكار. لكن ثمة وقاحة لدى الإسرائيليين في التعامل مع بعضهم بعضًا ومع بقية العالم، وثمة وقاحة "منكّهة"، تكون محملة بحسٍ مضمرِ من الكراهية والازدراء، في التعامل مع الفلسطينيين. وعليه، عندما عرضت مساعدة أخرى بشوشة مساعدتنا، شعرنا بالامتنان. الامتنان، كما ترون، لكونهم يتعاملون معنا ككائنات بشرية، "بغض النظر" عن كوننا فلسطينيين.
قدّرت الفستان. "واو!" هتفت المساعدة عند خروجي من غرفة القياس. حسنًا، فهمتُ أنها كانت تجاملني لكي تبيع الفستان، لكنني ابتسمت، مع ذلك. ثم تابعَت: "أنت جميلة؛ لا يخطر ببال المرء أنك عربية!" أعدت لها الفستان ومضيت وابنة عمي ونحن نهز أكتافنا. ليس من الممكن قضاء يوم واحد في إسرائيل ونسيان أننا "نحن" وأنهم "هُم"، وأننا قد لا نقبل إطلاقًا بشكل متساوٍ لهم. في الواقع، في معظم تعاملاتي مع الإسرائيليين، أستشعر طاقة عدائية لا يبذل أصحابها جهدًا في إخفائها، أو شكًا حذرًا، أو في أفضل الحالات، مثل حالة موشيه، التسامح الكريم معنا نحن "السكان الأصليين"، من أولئك الذين يتكرمون علينا بالسماح لنا بالبقاء في أرضنا.
بينما كنت وابنة عمي نقف في طابور "البرجر"، حدقت بفضول في عائلة إسرائيلية يهودية بالقرب منا، تصطف أمام كشك الشاورما. تساءلت كيف أن الفلسطينيين غير مرئيين في هذه البلاد، بينما الطعام الفلسطيني مطلوب بشدة. كانت علامة "كوشِر" على الشاورما [حلال، وفق الشريعة اليهودية]، أيضًا. إننا نجهد أنفسنا في محاولة الاندماج، لكنني أعتقد أن الدولة ستسرّ إن قمنا بتشغيل أكشاك الفلافل والشاورما واختفينا في الخلفية وحسب، بعد ذلك.
لأن مواجهة إسرائيل لنفسها ولأفعالها ضدنا، منذ البداية حتى اللحظة، عملية شاقة، ليست أي فئة من المجتمع الإسرائيلي جاهزة للإقدام عليها.
بعد عدة سنوات، كنت قد عدت إلى بريطانيا لنيل درجة الدراسات العليا في إدارة الأعمال. بيد أن ذلك الإحساس الكئيب باغتني من جديد فور تخرجي وعودتي إلى تل أبيب. في منزلي في فسوطة، عدت مجددًا إلى دائرة البحث عن وظيفة. وسرعان ما عاود الوحش القديم الظهور. كنت ما أزال أحمل اسمًا عربيًا ولا أملك رقمًا عسكريًا يدعمني، بما أن الفلسطينيين معفيين من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي. وبعد عدة شهور، كنت ما أزال عاطلة عن العمل. أخيرًا، في غمرة اليأس، ومع ارتفاع الديون التي تعين علي سدادها، حصلت على وظيفة لم أردها. ليست لدينا رفاهية تحقيق الذات في هذه البلاد؛ أدركت بقسوة أن علينا القلق بشأن معيشتنا وحسب.
كانت هذه الوظيفة في كرمئيل، التي كانت، هي الأخرى، بلدة يهودية في الجليل شيدت على أراضٍ تمّ الاستيلاء عليها من ثلاث قرى عربية: دير الأسد والبعنة ونِحِف. مرة أخرى، صرفت هذه الحقيقة عني يوميًا في أثناء توجهي إلى العمل؛ كنت بحاجة ماسة للوظيفة، وكنت بحاجة أيضًا إلى القوة اللازمة للتعامل مع الصدمة النفسية والعاطفية الناجمة عن عودتي إلى البلاد، التي كانت، بحلول هذه اللحظة، تزداد سوءًا.
كانت الانتفاضة الثانية تشتعل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي كل ليلة، كنت أعود إلى البيت لأشاهد الفظاعات في برامج الأخبار، وأرى في كوابيسي الجثث المدماة وأسمع نواح عائلات الضحايا. في أثناء اليوم، كان يلزمني مجهود هائل للتركيز في أي شيء. شكلت تلك الفترة مرحلة ضغط وحزن لا يوصف لي ولغيري من الفلسطينيين، ونحن نشاهد شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة يتعرض للهجوم مرة أخرى بهذا الحجم، دون أن يتمكن أحد منا من فعل أي شيء لإيقافه.
في العمل، كنت أسمع زملائي اليهود يتكلمون عن "سحقهم" للعدو ويتناقشون بانتشاء حول انتصارات إسرائيل. لم أستطع أن أهمس ببنت شفة، مرة أخرى. كان علي الحفاظ على وظيفتي. كانت الأجواء شديدة التوتر في البلاد بحيث كان الوضع أشبه بسلك مشدود على وشك أن ينقطع. في الكافيتيريا، على طاولة الغداء، أعلنت زميلة لي، في أواخر العشرينيات من العمر وفي مثل سني، بصوت عال بأن حكومتها كانت ترتكب خطأ في عدم "الذهاب إلى هناك [إلى الضفة الغربية] ومحو كل شيء - البشر والأشجار والقطط والكلاب، كل شيء - لإنهاء الأمر دفعة واحدة وإلى الأبد".
"لا يشار إلى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل كفلسطينيين من قبل المؤسسة الإسرائيلية، وإنما باستخدام اصطلاح يحمل كمًا هائلًا من التناقض اللفظي، ألا وهو "عرب إسرائيل"."
كان الاغتراب، بالطبع، ماثلًا على المستوى الجمعي، لا على المستوى الفردي وحسب. بعدها بفترة قصيرة، كان علينا تحمّل يوم استقلال إسرائيلي آخر. في هذا اليوم من كل عام، يهيمن على العديد من الفلسطينيين شعور حاد بالاكتئاب واليأس بحيث نفضل عدم الخروج من البيت. يترافق يوم الاحتفال الإسرائيلي مع ذكرى نكبتنا، ذكرى فقدان فلسطين وتشريد شعبنا. وبينما يحتفل الإسرائيليون اليهود في أرجاء البلاد ملوّحين بعلمهم، ويقيمون الاحتفالات وحفلات الشواء على الأراضي الفلسطينية، نقوم نحن بإحياء ذكرى القرى المدمرة، ونتذكر موتانا وأولئك الذين لا يمكنهم العودة. كل عام هو بمثابة تذكير مؤلم بمرور سنة أخرى على هذه المأساة. تكون البلاد كلها مكسوة بالأعلام الإسرائيلية لأسابيع قبل الاحتفال وأسابيع بعده، بجرعة هي أكبر من المعتاد. يبدو أن إسرائيل مهووسة برفع العلم في كل مكان، كما لو أن الأمر مقصودًا، ربما لتغذية الروح القومية الهشة.
كثيرًا ما تدهشني إرادتنا المطلقة في البقاء، كشعب، تحت وطأة نظام يحاول إلغاء وجودنا بلا هوادة. لعقود مضت، كان من غير القانوني رفع العلم الفلسطيني في إسرائيل. وحتى هذا اليوم، لا يشار إلى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل كفلسطينيين من قبل المؤسسة الإسرائيلية، وإنما باستخدام اصطلاح يحمل كمًا هائلًا من التناقض اللفظي، ألا وهو "عرب إسرائيل"، مُعد بدهاء لكي يوحي بأن إسرائيل لطالما كانت هناك وأننا كنا إحدى الأقليات فيها، وبنفس الوقت، لمواصلة محو هويتنا الفلسطينية وجعلنا "عربًا" وحسب، من عِرق يشمل مواطني اثنين وعشرين دولة.
والأسوأ من ذلك أننا بعد عدة عقود من هذا الترسيخ
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة