بين مشهدَيْن.. كيف بدت فلسطين عشية ذكرى النكبة السبعين؟!
كتب بواسطة أحمد التلاوي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1428 مشاهدة
كان اليوم الرابع عشر من مايو من العام (2018م)، من أهم الأيام في تاريخ القضية الفلسطينية، وفي القلب منها قضية القدس.
كانت لحظة "درامية" بكل ما في الكلمة من معانٍ، ولكنها كانت لشديد الأسف، من نوعية دراما الواقع، عندما انقسمت شاشات القنوات الفضائية إلى قسمَيْن.
القسم الأول- عبارة عن شباب يواجهون الموت بصدور عارية، مع خلفية من الدماء والدخان الأسود والرماد والأشلاء، وكان من غزة المحاصرة، من على حدود القطاع مع فلسطين التاريخية، حيث أصحاب الأرض الأصليون يسعون لاستعادة حقوقهم.
القسم الثاني- كان على النقيض، حيث الأبسِطَة الحمراء الفخمة، والأعلام الأنيقة، والوجوه النضرة "النظيفة" "الوسيمة"، والملابس الفخمة، وزُخْرف الاحتفالات كما ينبغي أن تكون، مع كَوْن الاحتفال يتم "على شرف" –مجازًا– أكبر قوة عظمى في عالم اليوم، وصاحبة أكبر ترسانة عسكرية، وأكبر اقتصاد في العالم، احتفاءً بخطوة تضمنت المزيد من قضم حقوق الذين ظهروا في القسم الأول من المشهد، في أرضهم ومقدساتهم.
وربما لم يكن هناك مشهد عبر التاريخ يُعبِّر عن فحوى التناقض الذي سوف يكون في فتنة المسيخ الدجال كما كان اليوم، حيث أُبَّهة وفراهة المشهد في القدس الغربية المحتلة، تشير -كما هو مفترض- إلى "الحضارة" و"النظافة"، و"الرقي" الإنساني، بينما القسم الأول أو الجانب الغزِّي من المشهد يبعث على "الكآبة" و"النفور"، بينما المحتوى والمغزى معكوسَان، حيث القسم الأول من الشاشة ينقل نضالات أصحاب الحق لاستعادة حقوقهم، والثاني ينقل مشهد احتفال المجرمين بالمزيد من الإجرام!
ولكن، وبعيدًا عن العواطف والمشاعر التي يبعثها ذلك في وجدان كل عربي ومسلم، بل وكل إنسان حر يتمتع بإنسانيته، فإن الدلالات السياسية للمشاهد الملحمية التي حفل بها هذا اليوم (الرابع عشر من مايو 2018م)، تُعتَبر تاريخية.
فخلف سُريالية المشهد، تكمن تفاصيل موضوعية مروِّعة، حيث تُعبِّر عن حالة من الضعف، ومن التشرذم، وصلت إليها الأمة، ربما لا مثيل لها عبر تاريخها الطويل.
وهذه ليست مبالغة، فعلى أبسط تقدير، فإنه إذا ما قورن رد الفعل الرسمي والشعبي العربي والإسلامي وقت مذبحة المسجد الإبراهيمي في العام (1994م)، وبين ما جرى عشيّة الذكرى السبعين للنكبة، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام صورة سوداوية مظلمة!
على أبسط تقدير، فإنه إذا ما قورن رد الفعل الرسمي والشعبي العربي والإسلامي وقت مذبحة المسجد الإبراهيمي في العام (1994م)، وبين ما جرى عشيّة الذكرى السبعين للنكبة، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام صورة سوداوية مظلمة
فبداية، فإننا أمام حالة من اللامبالاة التامة من جانب المستوى الشعبي، فباستثناء بعض التحركات التي خرجت في الأردن والمغرب وغيرهما، وكانت حتى من جانب الحركة الإسلامية، أي أنها ليست مواقف شعبية بالمعنى المفهوم، فإننا نجد أنفسنا أمام حالة من الصمت الكامل أمام كارثة كاملة ، حيث ما يقرب من ستين شهيدًا فلسطينيًّا ارتقوا، بينما تحتفل حكومتا الكيان الصهيوني والولايات المتحدة بنقل السفارة الأمريكية لدى الكيان إلى القدس.
وليس أبلغ على خطورة الحدث، مما قاله رئيس الحكومة الصهيونية "بنيامين نتنياهو" الذي هزأ بكل ما جاء في القرارات الدولية، بل والاتفاقيات التي وقعتها حكومات الكيان السابقة مع الفلسطينيين والعرب، بأن أساس الحل السياسي للقضية الفلسطينية، هو حدود (الرابع من يونيو عام 1967م)، حيث امتلأت كلمته بالخرافات التاريخية التي ما فتئت الأوساط اليهودية والمسيحية الصهيونية في الغرب ترديدها حول القدس كعاصمة تاريخية وأبدية للشعب اليهودي!
وهذا حتى فيه سخرية من جانب "نتنياهو" من الذين صدقوا حديث الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" وهو يأخذ قراره بنقل السفارة، ووزارة خارجيته في حينه، من أن الأمر يتعلق بالقدس الغربية لا الشرقية، حيث جاءت كلمة "نتنياهو" وكلمات المسؤولين الأمريكيين، خلوًا من أي شيء يتعلق بأنهم يفكرون في الأصل في شيء اسمه القدس بمفهومنا كعرب ومسلمين.
فنحن –إذًا– أمام حدث ربما لم يتكرر عبر التاريخ كثيرًا، من أن يكون لليهود السيطرة المطلقة على القدس بدعم من قوة دولية إمبراطورية الطابع مثل الولايات المتحدة.
على المستوى الرسمي، وفي الماضي، كانت الانتقادات تُوجَّه من جانب الشرفاء للحكومات العربية والإسلامية على فتور ردود أفعالها إزاء مثل هذه التطورات، ثم تطور الحال إلى انتقاد غياب ردود الأفعال حيال الجرائم الصهيونية والانفراد الأمريكي بالقرار فيما يخصّ شؤون الأمة.
لكننا الآن وصلنا إلى مستوى انقلبت فيه الصورة أصلاً، حيث باتت بوصلة المهددات والمخاطر، لا تتعلق أساسًا بالكيان الصهيوني، بل إن الصهاينة باتوا جزءًا من شراكة إقليمية قوية فيها دول عربية مركزية، ضد إيران .
وهنا مفارقة غاية في المأساوية، حيث إننا أمام حكومات عربية تدعم بالكامل القرار الأمريكي أيًّا كان، بسبب أن ترامب داعم قوي لهذه الحكومات، في الخليج العربي بشكل خاص، فيما يتعلق بصراعها مع إيران، وتنافساتها الإقليمية، كما في سوريا واليمن، وبالتالي، فهي تشترك –بشكل موضوعي صرف– مع موقف الحكومة الصهيونية، و"نتنياهو" على وجه الخصوص، من قرارات "ترامب" إزاء إيران، سواء بفرض عقوبات على مسؤولين إيرانيين، أو الانسحاب من الاتفاق النووي، وحتى قصف بعض الأهداف الإيرانية المزعومة في سوريا.
إننا أمام حكومات عربية تدعم بالكامل القرار الأمريكي أيًّا كان، بسبب أن ترامب داعم قوي لهذه الحكومات
كما أن مشاهد اليوم المشؤوم قد كشفت عن الكثير من الأوهام والأساطير حول وجود "أصدقاء" للشعب الفلسطيني، فباستثناء ردود فعل خجولة، مثل إعلان "مراسيمي" من القاهرة عن فتح المستشفيات المصرية أمام مصابي القطاع، وسحب تركيا لسفيرَيْها من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ومحاولة كويتية عرقلتها واشنطن في مجلس الأمن، فإننا أمام صورة شديدة الشحوب لما يجب أن يكون عليه الوضع في ظل كون القدس في الموضوع، بجانب الدماء التي سالت، والأرواح التي أُزهقت.
الأسطورة الثانية التي كشفتها مشاهد الرابع عشر من مايو، هي كذبة ابتدعها بعض الأطراف الفلسطينية والعربية الرسمية، وصدّقوها، في شأن وجود معارضة حقيقية في الكيان الصهيوني، يمكن أن تساعد في نيل الفلسطينيين للحد الأدنى من حقوقهم في أية تسوية مقبلة.
فزعيم المعارضة الصهيونية في "الكنيست"، "إسحق هيرتزوج"، كان حاضرًا للاحتفالية التي –بحسب ترامب بشكل رسمي، وما قاله نتنياهو– تخرج القدس بالكامل، شرقيها وغربيها، من التسوية الفلسطينية الصهيونية الموهومة.
على الجانب الآخر، فإن الحركة الإسلامية والوطنية الفلسطينية نفسها تتحمل الجانب الأكبر من الوزر، حيث لم يكن هناك أي إعداد لاستغلال الحدث في غزة اليوم لجلب المزيد من التعاطف الدولي، وبالتالي، ممارسة ضغوط على الكيان الصهيوني.
وفي رأي مراقبين، فإن الإعداد غير الجيد للحدث، ووضوح مسألة انفضاض الدعم الشعبي –على أقل تقدير– العربي والإسلامي، مع مسيرات العودة الكبرى، والتي أخذت طابعًا مخالفًا لنسقها السلمي عند "كرم أبو سالم" في آخر موجتَيْن لها، قاد إلى نقطة خلل في تقييم عامة الناس في العالم العربي والإسلامي لما جرى اليوم، حيث "تأكد" في الصورة الذهنية لهم، ما يقوله خصوم المقاومة، من أن حدث مسيرات العودة نفسه، هو واجهة أو أداة لحركة "حماس" لتحقيق أهداف لا تتعلق بصلب مصالح الفلسطينيين والغزيين المحاصرين على وجه الخصوص، وإنما بأمور تخص الحركة.
وهو ما كان ينبغي التحسُّب له؛ لأن الاتهام الجاهز دائمًا، هو أن الحركة ترسل الشباب للموت من دون طائل، لمصالح ذاتية، وهي نقطة لا يمكن إغفالها، حيث هي عِمَاد الخطاب الإعلامي الصهيوني في الغرب وأمام العالم عندما يتكلمون عن سلوك الفلسطينيين وقضية المقاومة الشعبية السلمية.
وبطبيعة الحال، فإن القضية برمتها، وأهل غزة خصوصًا، يدفعون ثمن أخطاء أخرى وقعت فيها الحركة الإسلامية الأم، الأكبر من المجال الفلسطيني، في إدارتها لملف الربيع العربي وثوراته في مرحلة ما بعد الوصول للحكم في بعض الدول العربية، مثل مصر وتونس وليبيا واليمن.
وهذا ليس توزيرًا للحركة الإسلامية، والإخوان المسلمين على وجه الخصوص، ولكن الشاهد الموضوعي أن الحركة نفسها لم تقدم في تونس وتركيا والمغرب، وهي بلدان يوجد للإخوان تمثيل في الحكم فيها، وكذلك في الأردن، حيث لا يزال لهم ثقلٌ كبير في الشارع، وفي البرلمان ومؤسسات أخرى مهمة، ما يرقى إلى ربع ولا عُشْر مستوى الحدث المركَّب الذي جرى في غزة والقدس في (الرابع عشر من مايو 2018م).
ومن نافل القول، إنه ضرب من الخيال العلمي أو الأوهام الفاحشة لو تصوَّر أحدٌ أنه يمكن مطالبة الحكومة في مصر أو في الكويت أو في السعودية، أو في أي بلد عربي أو إسلامي آخر، بما لم تقدِم عليه حكومة سعد الدين العثماني في المغرب، أو حكومة تشارك فيها "النهضة" في تونس، وهي أطراف إسلامية، بل وتمت بصلة قربى تنظيمية أو فكرية للإخوان المسلمين.
وحتى تركيا نفسها، حيث أهم معاقل دعم القضية الفلسطينية ودعم قطاع غزة، وحيث حكومة يقودها بالكامل حزب ذو جذور إسلامية، وهو "العدالة والتنمية"، وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان، لم يصدر رد الفعل المتوقَّع أو المتناسِب.
وهذا ليس لومًا، حيث لا يعلم أحدٌ الحسابات السياسية كيف تتم إدارتها وفق اعتبارات الموازنة بين أمور كثيرة معقدة، ولكن تبقى حقيقة موضوعية مهمة لا يمكن إنكارها، وهي أنه حتى لو قَبِلَ المتخصصون والمراقبون الذين هم على قدر من الفهم أي عذر بطبيعة الظروف القائمة أمام الحركة الإسلامية بأحزابها وجماعاتها بشكل عام في المنطقة برمتها، فإن عوام الناس والشعوب التي تقيس الأمور بعواطفها في الغالب، لا تتقبل ذلك ولا تفهمه في الأصل.
في المقابل، فإن المجتمع الدولي لا يقيس الأمور بمقياسنا كعرب ومسلمين، ولا بمقياس الفلسطينيين بشأن عدالة القضية ، حيث هو في النهاية طرف محايد، ويرون اليهود ضحية بفعل دعايات متواصلة منذ فترة "الهولوكوست" إلى الآن.
كما أنه من السخف أن تطالب الغرب –!!– بما لم يقم به حتى المسؤول السياسي الأول عن الفلسطينيين، وهو منظمة التحرير وعلى رأسها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الذي من الطريف أن أجهزته الأمنية منعت أي تحرك ضد الاحتفالية الصهيو أمريكية في القدس، أو المشاركة في مسيرات العودة في الضفة للتخفيف عن فلسطينيي قطاع غزة، بينما يخرج ليتكلم عن "استمراره في المقاومة الشعبية" –!!– الذي هو كان أول من تحدث عنها على أنها "خرافات"، بينما هي حقيقة رغمًا عنه، وربما هي الحقيقة النقية الوحيدة الآن في المشهد بالكامل!
من السخف أن تطالب الغرب –!!– بما لم يقم به حتى المسؤول السياسي الأول عن الفلسطينيين، الذي من الطريف أن أجهزته الأمنية منعت أي تحرك ضد الاحتفالية الصهيو أمريكية في القدس، أو المشاركة في مسيرات العودة في الضفة
وفي الأخير، تبقى مرارات عديدة، ولكن يخفف منها فقط أن الشهداء الذين ارتقوا، في يد رب رحيم، وأن جزاءهم على ما قدموه موكول إلى الحَكَم العدل، وربما كانوا هم الأحياء بينما الآخرون الذين يكتفون بالتنظير والنقد، هم الأموات ولكن لا يشعرون!
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة