الدين والسياسة.. تصالح أم تخاصم؟
كتب بواسطة د. محمد نور حمدان
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1526 مشاهدة
إن العلاقة بين الدين والسياسة علاقة جدلية فقد تكون العلاقة بينهما علاقة تصالحية تؤدي إلى تحقيق مصالح البشر وإسعادهم في الدنيا وقد تكون علاقة استغلالية يستغل الساسة الدين ورجاله من أجل أن يحققوا أطماعهم ومآربهم ومن أجل تخدير الشعوب وقد تكون علاقة تصارع وتقاطع وسأستعرض في هذا المقال العلاقات الثلاثة بين الدين والسياسة.
قد تكون العلاقة بين الدين والسياسة علاقة تصالحية توافقية عندما يكون الدين حاكما على الحكام والمحكومين فلا يستطيع الحاكم الاستبداد والظلم واستغلال الشعوب ونهب ثرواتهم لأنه يعلم بوجود جهة رقابية تراقب وتضبط تصرفاته وأعماله وقراراته وسلوكه ويلتزم المحكومين حدودهم فلا يتعدوها فهم يعرفون مالهم وما عليهم من حقوق وواجبات وبذلك تتحقق المصلحة لهم في دنياهم لأن السياسة في هذا المقام تعني فعل ما هو الأصلح لهم وقد عبر الإمام الغزالي فقال (الدين أصل والسياسة حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع) من خلال هذه العبارة الموجزة عبر عن العلاقة التي يجب أن تكون بين السياسة والدين، فالسياسة هي التي تحمي الدين بين البشر وتضمن تطبيق قيمه وأحكامه بالعدل بين الناس فلا ظلم ولا نهب ولا استغلال ولا استعباد والدين هو المرجع والأصل للحاكم والمحكومين الذي يجب الرجوع إليه والاحتكام له.
وقد شهدنا صورا تطبيقية فريدة عندما كانت العلاقة بين الدين والسياسة علاقة تصالحية تكاملية في عهد الخلافة الراشدة عندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (لو عثرت دابة في العراق لخفت أن يسألني الله عنها لأني لم أعبد لها الطريق) وعندما طلب الصحابة ترشيح عبد الله بن عمر ليتولى الخلافة بعد عمر قال (يكفي من آل الخطاب واحدا) ما الذي منع عمر أن يرشح ابنه للخلافة وما الذي جعل عمر يخاف أن يسأله الله إن عثرت دابة في العراق إنه الدين الذي يضبط أطماع الحاكم ويجعله في موقف المسؤولية والرقابة والمحاسبة في الدنيا والآخرة والأمثلة تكاد لا تحصى عن خلفاء مسلمين اشتهروا بعدلهم وتمسكهم في الدين وكيف انعكس تمسكهم في الإسلام على الحكم والشعب.
العلاقة الثانية هي علاقة استغلال من رجال الساسة للدين وأهله حيث إنهم يستخدمون الدين من أجل تحقيق أطماعهم ومآربهم يطوعون النصوص من أجل شرعنة أفعالهم وتصرفاتهم ويأمرون رجال الدين بإصدار الفتاوى التي تحقق وجودهم وهذه العلاقة الاستغلالية كانت سببا في رفض عدد من الناس الدين لأنهم يرون أن الدين هو أفيون الشعوب ومخدر الجماهير فالحاكم يستخدم الدين من أجل شرعنة الاستبداد والقتل والسرقة وهذا ما جعل بعض العلماء يبتعدون عن السياسة ويستعيذون من ممارستها لأنهم رأوا تلك الصورة المقيتة في استخدام الحكام للعلماء ورجل الدين وكم شهدنا من علماء انحرفوا عند أبواب الحاكم وفي بلاط الملوك فشرعنوا لهم حكم التغلب والقهر والظلم باسم الدين فسبب ثورات كبيرة على الدين وكان سببا رئيسا في المطالبة بفصل الدين عن الدولة والدعوة إلى العلمانية كحل في السياسة.
وأما العلاقة الثالثة هي العلاقة العدائية بين الدين والسياسة وقد نشأت هذه العلاقة بعد الثورة الفرنسية حيث طالب الثوار بإقصاء الدين عن السياسة وإبعادها عن مناحي الحياة وذلك لأنهم شهدوا تزاوج الكنيسة مع الحكام فأنتجت حكما استبداديا شموليا باسم الإله وأنتجت محاربة للعلم وأهله باسم حماية الدين وشهدت على إعدام الكثير بتهمة الهرطقة. وقد سرت هذه العلاقة المتوترة العدائية من المجتمعات الغربية إلى المجتمعات الإسلامية بحجة أن الفصل بين الدين والسياسة هو الحل لتطور المجتمعات وتقدمها وأن الدين هو سبب التخلف والظلم والاستبداد وبقيت هذه العلاقة المتوترة إلى يومنا هذا فالصراع لا يزال قائما في مجتمعاتنا حول تحكيم الشريعة وحول مرجعية الشريعة في الدستور.
إن الناظر في حال المجتمعات الإسلامية قبل الثورة الفرنسية يشهد أن العلاقة بيد الدين والسياسة هي علاقة تصالحية تكاملية فلم يكن الدين سببا من أسباب تخلف المجتمعات ولم يكن الدين سببا من أسباب الجهل بل على العكس لقد كان الدين على الحكومات الإسلامية المتعاقبة عاملا مهما لنشر العلم وظهور العلماء المسلمين وإفادة الحضارات من علومهم في الطب والفلك والأدوية وعلم الاجتماع ولقد كان الدين عاملا مهما في ضبط الحاكم المستبدين فقد كان للدين هيبة واحترام في نفوس الحكام تحد من ظلمه واستبداده وإن كان الحاكم متمسكا بالدين وأحكامه تجعل من هذا الحاكم مضرب المثل في العدل والتقوى والورع والنزاهة والتاريخ الإسلامي يشهد بأن الدين عندما ابتعد عن السياسة كان سببا في الظلم والاستبداد وعندما كان الخليفة متمسكا بالدين وقيمه كان سببا في تقديم نماذج فريدة للعدل والأمانة.
إن للدين في مجتمعاتنا عاملا مهما في زرع القيم في نفوس الساسة ومنعهم من المتاجرة بقضية الشعوب المسلمين فلا يستخدمون السياسة النفعية البراغماتية المصلحية المعاصرة والتي تقوم على سياسة ميكيافيللي في كتابه الأمير وإنما تقوم على سياسة (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته) تقوم على سياسة أن الحاكم وكيل عن الأمة وأن الله جعل هذه الأمة أمانة في عنقه ويجب عليه أن يدي هذه الأمانة بالعدل والإنصاف تقوم على سياسة عدم التمييز (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) تقوم على سياسة عمر بن عبد العزيز الذي لم يبق في زمانه فقير واحد عندما طيق سياسة القضاء على الفقر وقد استطاع التخلص من الفقر خلال سنتين ونصف تقوم على سياسة العدل ولو مع الأعداء (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا) وأخيرا تقوم على سياسة أن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله بغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو انتمائهم أو الحدود المصطنعة التي رسمها المستعمر للشعوب الإسلامية.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن