تحت مسمى التسامح.. لا يمكن إفراغ الإسلام من قِيَمه
كتب بواسطة موفق السباعي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
978 مشاهدة
معظم الناس، مسلمين، وغير مسلمين، حينما يريدون عرض الإسلام، على سبيل المدح والثناء والافتخار، يلجؤون إلى إبراز الجانب الخلقي، والإنساني، الأصيل في الإسلام، من حب وتسامح، وسلام ورحمة، ومودة وتعايش مع الآخرين، ويهملون عن قصد، أو غير قصد، الجوانب الأخرى للإسلام.
فهم يسلطون الأضواء؛ ويركزونها على بؤرة صغيرة جدًّا في جسم الإسلام العملاق الكبير، ليظهروه بمظهر الحمل الوديع، اللين، الرفيق، أو كالطائر المقصوص جناحاه، المستسلم للأعداء، والمسامح لكل من يعتدي عليه، أو يؤذيه، أو يسيئ له!
فالمسلمون الطيبون ذوو النية الطيبة، يظنون أن عرضهم الإسلام، بهذه الصورة الهزيلة الضعيفة، المتضعضعة، المستسلمة للأعداء، والمتسامحة معهم – مهما آذوه، ومهما اعتدوا عليه، ومهما شتموه، وحقروا من شأنه، ومهما سخروا منه، ومن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المسلمين الأولين والآخرين – سوف يدفع غير المسلمين، للدخول فيه! لكي تتشابه مع الصورة المسيحية، التي تدعو أتباعها، بألا يقاوموا إذا اعتدى عليهم أحد! بل تطلب منهم كما ورد في (أنجيل لوقا (29:6):«من ضربك على خدك فأعرض له الآخر، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك».
تناقض مع الفطرة البشرية
وهذا يعارض ويناقض الفطرة البشرية، التي أودع الله فيها غريزة حب الانتقام، والثأر ممن اعتدى عليها، وغريزة العزة والكرامة، والإباء والغضب ممن أهانها، أو أساء إليها، أو اعتدى عليها.
ويصورون التسامح والصفح والسلام في الإسلام، على أنه عام، ويشمل كل الناس، المسالمين والمحاربين، والطغاة والمستكبرين، والمجرمين والمعتدين، وأن هذا هو الإسلام، ولا شيء غيره!
وهذا باطل بطلانًا كليًّا، ولا يمت إلى الحقيقة بأي صلة، علاوة على أن هذا التصوير، فيه تشويه، وتقزيم لصورة الإسلام العظيمة المشرقة، المفعمة بالقوة، والعزة والعظمة.
فالتسامح والصفح والعفو، مظهر أصيل في الإسلام – لا شك فيه ولا ريب – ولكن ليس هو كل الإسلام! وإنما هو جزء صغير من منهاج الإسلام العام، الشامل للحياة كلها، كما أنه ليس لكل الناس!
مواصفات من يستحقون التسامح ومن لا يستحقون
فالقرآن الكريم يحدد بالضبط من هم الذين يستحقون الإحسان والتسامح، فيقول: {لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ}(1).
فهؤلاء الناس الطيبون اللطيفون، الوديعون المسالمون، الذين لم يؤذوا المسلمين، ولم يحاربوهم؛ ولم يقاتلوهم؛ ولم يعتدوا عليهم؛ ولم يحرضوا على قتالهم، وعلى إخراجهم من أرضهم وتشريدهم، فهؤلاء لهم كل المحبة والمودة، ويمكن التعايش معهم بأمان وسلام، وصفاء، وتعاون على البر والتقوى.
أما الذين يحاربون المسلمين؛ ويعتدون عليهم؛ ويخرجونهم من ديارهم؛ ويحرضون الآخرين على قتلهم؛ وتشريدهم ونفيهم في الأرض! فهؤلاء لا يجوز بتاتًا التسامح معهم، أو موالاتهم، ومحبتهم، والتعاون، والتآلف معهم، ومن يفعل ذلك، يتعرض إلى غضب الله، ويعد من الظالمين والخائنين {إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ}(2).
والرسول، صلى الله عليه وسلم، قد طبق هذه التعليمات الربانية تطبيقًا عمليًّا، حينما دخل مكة فاتحًا، فقد عفا عن أهل مكة، وقال لهم: «لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء)»، ولكنه استثنى بضعة أشخاص، لم يعف عنهم، وأمر أصحابه، بأن يقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، لأنهم كانوا يسيئون إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويهجونه، ويقدحون في أعراض المؤمنين والمؤمنات، فكان لا بد من الاقتصاص منهم، ومعاقبتهم على ما ارتكبوه من جرائم لا تغتفر.(3).
وهذا مصداق وصف الله تعالى لرسوله، صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه في كتابه الكريم {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ}(4).
مثالية الإسلام وواقعيته
فالإسلام مثالي واقعي عملي، ذو قيم أخلاقية عالية، سامية، رفيعة، ولكنه يتعامل مع الفطرة البشرية، كما خلقها العليم البصير بعباده، يلبي تطلعاتها الراقية، السامقة، ويحقق رغباتها ضمن الإطار الأخلاقي، وضمن الحدود التي حددها الله تعالى، للمحافظة عليها عزيزة كريمة، وفي الوقت نفسه يتجاوب مع غرائزها جميعها، بشكل متوازن ومتناسق، فلا يكبت واحدة منها، ويقمعها ويطمسها، ويلغيها – كما تفعل المسيحية – ويطلق العنان للأخرى، لكي تهيمن وتسيطر على بقية الغرائز.
فالصفح والتسامح، يتوازن مع الثأر والانتقام، والعفو والمغفرة، يتوازن مع العقاب والقصاص، والرحمة والمودة تتوازن مع الشدة والقوة.
إن الإسلام دين عظيم ورائع جدًّا، جاء لأجل الإنسان في أي زمان، وفي أي مكان، فالإنسان هو الإنسان، يحمل المواصفات نفسها، والصفات نفسها، والطباع نفسها، والغرائز والرغبات نفسها، والمشاعر والأحاسيس نفسها، مع اختلافات جزئية بسيطة من ناحية الكم، وليس من ناحية الكيف.
فكل الناس يغضبون، ويحبون الحياة الدنيا، والمال والبنين والنساء والجاه، والسلطان والرئاسة والسيادة، والبروز والجمال، والظهور بمظهر أنيق جذاب، والحرية والصحة والعافية، ويكرهون الموت، والاستعباد والظلم والطغيان، والفقر والحزن، والألم والمرض.
وكلهم يتألمون ويحزنون لفقد قريب، أو حبيب أو صديق، أو لخسارة مال، أو وظيفة، أو رسوب في امتحان، أو فشل في عمل ما، وبالمقابل يفرحون إذا تزوجوا، أو جاءهم مولود، أو حققوا نجاحًا في مشروع أو عمل، أو ارتقوا إلى مرتبة أعلى في الوظيفة.
فالإسلام العظيم! يتعامل مع كل هذه المواصفات والصفات البشرية – التي قد تبدو متناقضة ومتضادة – تعاملًا متوازنًا متناسقًا، بالعدل والمساواة بينها، دون تفضيل واحدة على الأخرى، ويفتح جميع الأبواب، للرقي إلى الأعلى، إلى القمة السامقة، التي يقف عليها سيد البشر محمد، صلى الله عليه وسلم.
وعلى النسق نفسه، فإن صفات الله تعالى، تتضمن الصفة الواحدة والمقابل لها، فهو شديد العقاب، وهو غفور رحيم في آن واحد، فيُنزِل العقاب الشديد على الكافرين والمجرمين، ويعفو ويغفر ذنوب المؤمنين الطائعين، المنيبين التائبين، كما وصف نفسه سبحانه في كتابه الكريم {ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(5).
ومن منطلق التعامل مع الفطرة البشرية كما خلقها ربها، والتواؤم والتناسق مع غرائزها جميعها – دون استثناء – ودون إفراط ولا تفريط، جاءت آيات الله البصير بعباده تترى، في وجوب رد الاعتداء بمثله، ورفض الانصياع والاستسلام، والاستخذاء والخنوع «فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱعۡتَدُوا۟ عَلَیۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡۚ}(6). {فَلَا تَهِنُواْ وَتَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلسَّلۡمِ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن يَتِرَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ}(7).
يظنون أنهم يخدمون الإسلام
يظن المسلمون الطيبون، الذين يعرضون الإسلام، على أنه فقط دين التسامح والسلام، والرحمة، أنهم يخدمون الإسلام، بأن يشجعوا غير المسلمين، على الدخول فيه!
والحقيقة أن النفوس الأبية العزيزة، الكريمة لن تُقبل على دين يتصف بهذه الصفات الهزيلة الضعيفة؛ لأنهم هم يعانون من دينهم، الذي يتصف بها، فلماذا ينتقلون إلى دين آخر مشابه لدينهم؟! إنهم يريدون دينًا قويًّا، عزيزًا، يحافظ على كرامتهم، وعزتهم، ويلبي طموحاتهم في السيادة، والقوة والمنعة.
ولذلك يجب على الدعاة إلى الإسلام، أن يعرضوه بالصورة المشرقة الزاهية، التي جاء بها من عند الله تعالى، وبالصورة الشاملة، التي طبقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حياته.
الإسلام منهاج ونظام للحياة البشرية
فالإسلام – بشكل مختصر – هو منهج حياة للبشرية جمعاء؛ ونظام عام للمجتمع الإنساني؛ ودستور للدولة، يتضمن آداب وسلوكيات للإنسان، منذ ولادته وحتى موته.
فيتضمن آداب التعامل مع المولود عقب ولادته مباشرة، حيث يؤذن الوالد في أذنه اليمنى؛ ويؤدي الإقامة في أذنه اليسرى، ثم تحنيكه بتمرة، ثم عمل العقيقة – وهي ذبح شاة للأنثى، وشاتين للذكر – ثم ختان الذكر بعد مضي أسبوع من ولادته.
هذه الآداب والسلوكيات الترحيبية بهذه العطية الإلهية، وبهذا التفصيل، لا توجد في أي قانون بشري، أو نظام عالمي آخر على وجه الأرض إطلاقًا.
هذا علاوة على أنه يتضمن، آداب العلاقات الزوجية، وآداب المعاشرة الزوجية في الفراش، فيتعلم المسلم بشكل مفصل – دون حياء ولا خجل – كيفية المعاشرة الزوجية، وماذا يفعل قبلها وأثناءها وبعدها!
ويرى الإسلام أن أداء هذه المعاشرة، فيها أجر وثواب من الله تعالى، إذا نوى بها التعفف والتطهر، والكف عن المحرمات. والرسول، صلى الله عليه وسلم، بوضوح، لا لبس فيه، ولا غموض، ولا حياء – لأنه لا حياء في الدين، والله تعالى لا يستحي من الحق – فيقول في الحديث الصحيح عن أبي ذر الغفاري:«وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ»(8).
هذا عدا عن آداب الأكل والشرب والنوم، ودخول الحمام، والطهارة والغسل، وآداب التعامل مع الأقرباء، ومع الأصدقاء، ومع الجيران، وآداب البيع والشراء، والتجارة والصناعة والزراعة، ثم آداب التعلم والتعليم، والدعوة إلى الله تعالى.
إضافة إلى الشرح المفصل، عن كيفية التحاكم في القضاء؛ وكيفية إدارة الدولة في السياسة الداخلية والخارجية؛ وكيفية التعامل مع الدول الأخرى، على مبدأ الندية، والسيادة والقوة والعزة، وعدم الخضوع والخنوع لأي دولة أخرى، مهما كانت قوتها وعظمتها.
إذًا الخلاصة! إن مبادئ الإسلام لا تنحصر، ولا تتقوقع في الجانب الخلقي، مثل التسامح والمحبة والسلام والرحمة فقط، وإنما مبادؤه تشمل جوانب الحياة الإنسانية بكل تفاصيلها، صغيرها وكبيرها، دقها وجلها.
المصدر : ساسة بوست
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن