الفتوى وآدابها.
ما منا واحد، إلا ويحتاج أن يسأل سؤالاً، أو أن يتبين الحكم في مسألة، وفي الوقت نفسه فالكثيرون منا قد يتعرضون لسؤال أو يأتي من يستفتيهم في مسألة، إنْ مِن أقربائهم أو من جيرانهم أو من أصدقائهم؛ بحكم أنهم يعلمون أن للمستفتَى مسجداً يأوي إليه أو مجلس علم يحضره، ويتوقعون أن يكون عنده جواب شافٍ للمسألة التي تبحث لها عن جواب.
وقد أثبت الله تعالى هذه الحاجة في الإنسان في القرآن الكريم في آيات كثيرة تبدأ بقوله تعالى (يسألونك)، وفي قوله تعالى (ويستفتونك) مع الانتباه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، مشرّع بخلاف من يفتي في الوقت الراهن، إذ لا تعدُّ فتواه تشريعاً.
أضف إلى ذلك أن أجهزة الإعلام التي يقضي عليها كثير من المسلمين وقتاً كبيراً تعج بالمفتين والمستفتين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء فإذا ذهب العلماء اتخذ الناس رؤساء فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل".
وبما أن العالم اليوم قد أصبح قريةً صغيرة كما يقولون؛ فإن الفتوى التي تصدر في مكان ما من هذا العالم، تتناقلها الألسنة في اليوم التالي في المكاتب والشركات والمعامل ووسائط النقل وفي كل مكان، ويجد فيها الكثير من الناس بغيتهم، ويظنون أنهم باتباعها ينجون من عذاب الله، ولقد أعجبني كثيراً خاتمة كتاب قرأته يرد فيه مؤلفه على فتاوى آخر قد أسرف في الفتاوى بغير دليل شرعي يقول في نهاية الكتاب: (كيف بك إذا وقفت يوم القيامة أمام الله تعالى وأمامك شباب وشابات يقولون: يا رب كنا نريد أن نتوب ونقلع عن التفلت والآثام إلا أننا سمعنا فلاناً من أهل العلم والفتوى يبيح كثيراً من علاقاتنا وتفلتنا فأعرضنا عن التوبة عندها أجب الله تعالى إن استطعت)؛ لأجل كلِّ ذلك لا بدَّ لنا من الحديث عن الفتوى وعن آداب المفتي والمستفتي.
وسيندرج حديثنا هذا في أربعة نقاط:
أولاً: حقائق عامة حول الفتوى.
ثانياً: آداب المفتي.
ثالثاً: آداب المستفتي.
رابعاً: نماذج من فتاوى الصحابة والسلف.
أولاً: بعض الحقائق حول الفتوى:
الحقيقة الأولى أن فتوى المفتي لا تحلّ الحرام للسائل ولا تعفيه من المسؤولية أمام الله تعالى، فالكثيرون يأتون إلى المفتي ويعرضون عليه قضية مالية مثلاً، بطريقة قد تكون مشوّهة، وقد يكون المفتي غير متمكن من الفتوى أو استطاع المتكلم أن يوصل إليه المسألة كما يريد فيحكم له، فيخرج المستفتي ويقول معبراً عن راحته: (أزلتها من رقبتي ووضعتها في رقبته) ومن قال لك ذلك، إنها ما زالت في رقبتك، وقد يكون المفتي قد شاركك الإثم إن كان أفتى بغير علم أو أن يكون قد نجا هو إن استنفد وسعه، أما أنت فالمسؤولية كلها عليك.
هل تعلمون أن إنساناً ما لو استطاع جدلاً أن يصل إلى شيء لا يحل له عن طريق حكم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا الحكم لا يمكن أن يكون نجاة له من عذاب الله تعالى.
عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخْتَصِمانِ في مواريثَ لهما، ولم يكن لهما بَيِّنَة إِلا دعواهما، فقال: "إِنما أنا بَشَر وإِنكم تختصمون إِليَّ، ولَعَلَّ بعضكم أن يكونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحَقِّ أخيه، فإنما أَقْطَعُ له قطعة من النَّار". فبكى الرجلان، وقال كلُّ واحد منهما لصاحبه: حَقِّي لَكَ، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أمّا إِذ فَعَلْتُما كذلكَ فاقْتَسِما، فَتَوَخَّيَا الحقَّ، ثم اسْتَهما، ثم تحالا".
فهل لإنسان بعد هذا أن يقول لك أخذت رأي فلان من العلماء، وقد أجاز لي هذا وهو يعلم يقيناً أنه لا يجوز.
الحقيقة الثانية أن الفتوى قد تكون في كثير من الأحيان خاصة بالمستفتي، هي تماماً كالوصفة الطبية التي يعطيها الطبيب لمريض ما، فلا يجوز لأي إنسان آخر أن يأخذها، فربما عادت عليه بالضرر.
وكذلك الفتوى إنما هي اختيار من أمر الشارع بما يحقق مصلحة المستفتي التي لن تكون طبعاً إلا في تطبيق أمر الله تعالى، وإن توهم أن مصلحته بخلاف الشرع، لذلك فلا يجوز ألبتة أن تنقل فتوى في أمر خاص بك وتلقيها على الملأ فربما تعلق بها من تناسبه أو لا تناسبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأل السؤالَ نفسَه فيجيب عليه بالأجوبة المختلفة تحقيقاً لمصلحة السائل وحاله دون خروج عن مقصد الشارع.
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: طولُ القيام".
وسئل: "أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجِهاد لا غُلولَ فيه، وحَجَّة مبرورة".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال: الصلاة في أول وقتها، قلت: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قلت: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين، ولو استزدته لزادني.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الحالُّ المرتحل، قال: يا رسول الله وما الحال المرتحل؟ قال: صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره، ومن آخره حتى يبلغ أوله كلما حلَّ ارتحل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله. قال: فإن لم أستطع ذلك؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق. قال: فإن لم أستطع ذلك؟ قال: احبس نفسك عن الشر فإنها صدقة تصدق بها عن نفسك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: أن يسلم الناس من لسانك.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله، مُرْني بأمر ينفعني الله به، قال: عليك بالصيام، فإنه لا مِثْلَ له. وفي رواية أنه سأله: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: عليك بالصوم، فإنه لا عِدْل له.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ العباد أفضلُ وأرفَعُ درجة عند اللهِ يوم القيامة؟ قال: الذَّاكِرُون الله كثيراً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ: لا إِلهَ إِلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ وهوَ على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ في يومٍ مائة مرةٍ، كانت له عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنه مائة سَيِّئَةٍ، وكانت لَهُ حِرْزا من الشيطانِ يومَهُ ذلكَ، حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بِأفضلَ مما جاءَ بِهِ، إِلا رجلٌ عَمِلَ أكثر منه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرمَ على الله من الدُّعاءِ".
فإذا نظرنا في هذه الأحاديث وغيرها كثير رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاب بإجابات مختلفة لأشخاص مختلفين، وفي أوقات مختلفة.
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لسيدنا أنس بكثرة المال فبورك له فيه وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال: (قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه).
وقال لسيدنا أبي ذر: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم)، ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام بحق الله تعالى فقد قال صلى الله عليه وسلم في الإمارة: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن).
وقال في اليتيم (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، ثم نهى أبا ذر عنهما لما علم له خصوصاً من الصلاح في ذلك.
وفي الصحيح أن ناساً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: وقد وجدتموه قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان)، وفي حديث آخر (من وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله)، وعن ابن عباس إذا وجدت من ذلك شيئاً فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
وفي الصحيح: (إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار).
وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كلَّه وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، وجاء آخر بمثل بيضة من ذهب فردّها في وجهه.
هذه نماذج وغيرها كثير وقد أطلت في عرضها لأصل إلى حقيقة مهمة وهي أن الذي يناسبك من الفتوى قد لا يناسب غيرك، والذي يناسب غيرك قد لا يناسبك فليست الفتوى التي تسمعها وصفة عامة تصلح لكل سائل، وهذا الأمر يزداد أهمية مع انتشار الفتاوى في الفضائيات فهي في أحسن أحوالها إن صدرت من عالم ورع فهي فتوى خاصة لعذر خاص يسمعها المشاهد، أو يسمع الجزء الأخير منها ثم ينقلها بين الناس على أنها فتوى العالم الفلاني.
ولكن، انتبهوا هنا لا أريد أن يفهم من الأحاديث التي عرضتها عليكم أن هناك عدداً من الأحكام لا حصر لها، وأن المفتي يمكن أن يفتي وفق هواه أو هوى السائل دون ضابط؛ بل العكس تماماً فعلى المفتي أن يتخير من الشرع بما لا يخرج عن الكتاب والسنة، ما يناسب المكلف ففيهما السعة والاستيعاب لكل حادثة.
الحقيقة الثالثة وهي مستنبطة من السابقة: ليس للإنسان العامي أن يفتي من الكتب فيقرأ فيها بغير علم ثم يعطي الفتوى بناء على قراءته يقول ابن القيم: (ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم، وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم؛ فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين، أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم).
لذلك فالفتوى لا تؤخذ من الكتب مباشرة بل الكتب هي الأدوات الأولية بين يدي العالم يقرأ فيها ثم يفتي.
وهنا أيضاً أنا لا أدعو أبداً إلى عدم القراءة في الكتب، فديننا دين طلب العلم والقراءة، ولكن أقول: لا تكفي القراءة وحدها للإفتاء.
ثانياً: آداب المفتي:
أولا: أن يكون ورعا،ً فقد تهيب سلف الأمة من الخوض في الإفتاء لعلمهم الجازم أن الله تعالى جعل لكل إنسان ملكاً يرقب قوله وعمله ويكتبه ويحفظه وسيسأل يوم القيامة عن أقواله وأفعاله ليحاسب عليها كما قال الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }، لذلك كان السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، يتهيبون من الإفتاء، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا تعينت عليه بذل جهده في انتزاع حكمها من الدليل الشرعي ثم أفتى به.
قال ابن عيينه: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها.
وعن عطاء بن السائب التابعي قال: أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم، وإنه ليرعد.
قال الإمام أبو حنيفة: لولا الفرق - أي الخوف - من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً، يكون له المهنأ وعلي الوزر.
وعن عبد السلام بن سعيد التنوخي أنه قال: أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع أخرته بدنيا غيره.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء قال: لا أدري، ثم يقول: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسوراً في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر بهذا.
لذلك أخي الكريم لا تعتب على عالم ورع سألته سؤالاً فقال لك: لا أدري دعني افكر فيها أو دعني حتى أسأل عنها فما ذلك إلا لورعه وتهيبه من أن يسخط الله تعالى بفتواه.
وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا }. وقال أبو الحسين الأزدي: إن بعضكم ليفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
ثانياً: أن يجتهد في إصلاح حاله، فيحمل نفسه على الالتزام بآداب الشرع في أعماله لأنه القدوة الحسنة.
ثالثاً: أن يتحلى بالمروءة الظاهرة وألا يفعل شيئا يستقبحه الناس مما يشينه وينقص من قدره.
رابعا: أن يصلح سريرته، فإذا نزلت به المسألة توجه إلى الله تعالى أن يسدد قوله وأن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ويبصره بالحق
خامسا: أن يكون عاملاً بما يفتي به من الخير، منتهياً عما ينهى عنه من المحرمات والمكروهات ليطابق قوله فعله لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه.
سادساً: ليس للمفتي أن يفتي في حال تغيّر خُلُقه كالغضب ونحوه.
سابعاً: إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي أن يشاوره ولا يستقل بالجواب تسامياً بنفسه عن المشاورة والاستعانة على الفتاوى بغيره من أهل العلم.
ثامنا: عدم إفشاء سر المستفتي، فهو كالطبيب يطلع من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيره.
تاسعاً: ذكر الدليل في الفتوى.
قال ابن القيم: (ذكر الاستدلال في الفتوى هو روحها وجمالها، لأن الدليل من كلام الله تعالى ورسوله وإجماع المسلمين والقياس الصحيح إن هو إلا طراز الفتاوى لأن قول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ المفتي من عهدة الفتوى بلا علم.(
عاشراً: المفتي لا يعين على مكر أو خداع
قال العلامة ابن القيم: (يحرم على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل مُحرم أو مكر أو خداع ألا يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم، وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يفرط في حسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم، فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازها وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها).
ثالثاً آداب المستفتي:
-
أن يطمئن قلبه قبل العمل بالفتوى فلا يجوز للمستفتي العمل بالفتوى بمجرد صدورها من المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبولها شيء، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً لأن فتوى المفتي لن تخلصه من الله تعالى إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه.
ولا يظنن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أو لشكه فيه أو لجهله به أو لعلمه جهل المفتي به أو محاباته في فتواه أو عدم تقيده بالكتاب والسنة
أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، يسأل ثانيا وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها والواجب تقوى الله تعالى بحسب الاستطاعه. -
لا يجوز للمستفتي أن يكتفي بسؤال واحد من العلماء غير موثوق بعلمه أو بورعه، أرأيت إلى إنسان أراد أن يبيع بيته فنزل إلى مكتب عقاري بجوار بيته لا يعلم عن خبرته وخلقه شيئاً فسأله بكم تثمن بيتي فقال له بكذا فقال له قد بعت بم نحكم على هذا الإنسان، هذا في أمور الدنيا فكيف بأمور الآخرة لماذا تقول سمعت من فلان أن هذه المعاملة الربوية حلال، وسمعت من آخر أن المصافحة مصافحة النساء جائزة ومن ثالث أن الاستماع إلى الملهيات مباح وهكذا أيكون بيتك أغلى عندك من الله لماذا تسأل عشرات الأشخاص قبل أن تشتري مركبة أتكون المركبة أغلى عندك من تطبيق أمر الله !!!!
-
لا يجوز للمستفتي أن يتتبع الرخص من المذاهب الفقهية بل عليه أن يأخذ نفسه بالعزيمة فإن لم يستطع أخذ نفسه بالرخصة إلا في الأمور التي ثبت بالنص أن الأخذ فيها بالرخصة أولى من العزيمة كقصر الصلاة في السفر مثلاً فبعض الناس يجمع لنفسه والأسوأ من ذلك أن يجمع للناس رخصة من كل مذهب ويعمل بها ظاناً أنه بذلك متبع ولا شيء عليه والحقيقة خلاف ذلك.
-
أن يكون حريصاً على دينه فيذكر الواقعة كما حدثت تماماً من غير تعتيم على حقيقة فيها يعلم أنها لا تفيده في انتزاع الفتوى التي يريد، أو إظهار لحقيقة أخرى على غير ما هي عليه أو إيهام للمفتي بخلاف الواقع، وكان الأحرى به أن يقوم بما يريد وفق هوى نفسه دون أن يسأل ويضاعف إثمه، وفي هذه الحالة لا إثم على المفتي الذي أفتى وفق ما سمع ولكن الإثم كبير على المستفتي.
أخيراً هذا نموذج من الفتوى الصادقة التي تخرج من المفتي حرصاً على دين المستفتي لا عن رأي ولا عن هوى.
روي أن عمر بعث إلى امرأة مغيبة كان رجل يدخل عليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر فبينما هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت والٍ ومؤدبٌ، وصمت عليٌّ رضي الله عنه، فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك لاتبرح حتى تقسم ديتها على قومك).
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن