الهجرة النبوية.. أخبارٌ وعِبَر
أعوامٌ عديدة وأزمنةٌ مديدة تعلو فيها أقدامُ المارّة رمالَ الطريق بين مكّة ويثرب إلى أن تطأها أقدامُ خيرِ البريّة وشرفِ الإنسانية؛ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلم، وصاحبِه أبي بكر رضي الله عنه؛ فتهتزُّ وتَطرَبُ، وتستحيلُ حبّاتُها ذَهَباً يشعُّ على البشريّة التي كانت للأمس القريب_ آنذاك_ تتخبَّطُ في مداركِ الجهلِ والضَّلال فتعبدُ الأوثان، وتأكل الميْتة، وتَئِد البنات، وتأتي الفواحش، وتقطع الأرحام.
يا للبشرى! إنه يومٌ من أعظم أيام الدنيا، يُؤذِن بغيثٍ يَفيضُ على الوجود فيجلو عنه أدرانَ الظلم والطغيان، فيُرغِم أنفَ الزعامة المستبدّة في قريش ويَذَرُها لا شأنَ لها يُذكر عند العرب، ثم يأتي على حضارتين اثنتين (روما وفارس) فيجعلهما أثراً بعد عَين في غضون خمسين سنة.
إنه يوم الهجرة، يومٌ يُحدّثُ التاريخُ أخبارَه، ويكشفُ عن عِبَرِه وأسراره، فتُشَنِّف أذانُ الكون لتلتقطَ من كامن دُرّه أخباراً تملأُ المسامع، وعِبَراً تملأُ القلوب.
يخبرُ أنّ قريشًا ضَغِنتْ على الدين الجديد، فصبّتْ جامَ غضبها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فأذاقتهم سوءَ العذاب ثلاثَ عشرة سنة، فكانت تُرسل من يرمي (كرش البعير) على رأسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وتبعثُ مَن ينثرُ على رأسه الشريف الترابَ وهو سائر، وكانت تُغري مَن يضع الصخرةَ الجسيمة على صدر بلال رضي الله عنه تحت حرِّ الظهيرة بعطايا تحفّزه على استعمالِ وسائل تعذيبٍ متوحشة، وكانت تضْطرُّ طلائعَ المسلمين إلى خيار بين الكُفر والموت.
فكانت العِبرة: أنَّ طريق الدعوة ليست يسيرةً ولا قصيرة، بل هي طريق وَعِرةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، لا يبلغ سالكها إلا بشِقّ الأنفُس، وأنّ الوُرودَ التي تسحرُ الأعينَ وتعبقُ في الأنفاس، ما كانت لتكون لولا الأشواك التي تحملُها.
ولا أدلُّ على ذلك من جوابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن جاءه يشكو قريشاً: 'كانَ الرَجلُ فيمَن قَبلَكُم يُحفَرُ له في الأرض، فيُجعَلُ فيه، فيُجَاءُ بالمنشَار فيُوضَعُ علَى رَأسه فيُشَقُّ باثنَتَين، وما يَصدُّهُ ذلكَ عن دينه، ويُمشَطُ بأَمشَاط الحَديد ما دُونَ لَحمه من عَظمٍ أَو عَصَبٍ، وما يَصدُّهُ ذلكَ عن دينه، واللَه لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتَى يَسيرَ الرَاكبُ من صَنعَاءَ إلى حَضرَمَوتَ، لا يَخَافُ إلَا اللَهَ، أَو الذئبَ علَى غَنَمه، ولَكنَكُم تَستَعجلُونَ' (صحيح البخاري).
يومٌ يخبرُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبَى قَبولَ العروض المُغرية التي عرَضتها عليه قريش، عندما أرسلت إليه عتبةَ بن ربيعة يقول له: يا ابن أخي، إن كنتَ إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر ِمالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكونَ أكثَرَنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا، حتى لا نقطعَ أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالَنا حتى نُبرئَك منه.
فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قرأ عليه آياتٍ من صدر سورة (فُصّلت) فرجع الرجل إلى قومه بوجهٍ غير الوجه الذي جاء به.
فكانت العبرة: أنّ الوضوحَ والجرأة في إظهار الحق مطلوبان، وأنَّ المداهَنة والتمييع في الدين _من مثلِ ما نشهدُه اليوم من تحييد آيات الجهاد عن مناهج التعليم، واستقدامِ العواهر والشواذّ من غربٍ وشرق، وفتحِ المسارح والمعازف، بحُجّة (الدبلوماسية) والحِفاظ على الوجود_ لمَعرّةٌ ومَذَلّة.
ولبئس الحُجّة هذه، بل قلْ هي إحدى الحُسنيين إما النصرُ وإما الشهادة، ولله دَرُّ عنترةَ حيث يقول:
لا تَسْقِني ماءَ الحياةِ بذِلَّةٍ / بل فاسْقِني بالعزِّ كأسَ الحنظَلِ
يومٌ يخبرُ أنّ اليهود كانوا يَعِدون الناسَ في المدينة ويتوعّدونهم بِقُرب مبعثِ نبيّ جديد يجدونه في كُتبهم، فلما بُعث صلى الله عليه وسلم حَنقوا عليه وحاولوا اغتيالَه.
فكانت العبرة: أنَّ لفيفَ الصهاينة البغيض الذي احتلَّ أرض فلسطين ونكّل بأهلها وهجّرهم، هم أحفادُ اليهود الذين غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ التطبيع معهم خيانةٌ للعباد وللبلاد، ولعنة ستَحيقُ بأهلها المطبِّعين، طال الزمن أم قَصُر.
يومٌ يخبرُ أن قريشاً عندما استنفدتْ كلَّ سبيلٍ تَنال به من محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته عَمدتْ إلى سبِّ رسول الله _ بأَبي هو وأمي_ والاستهزاء به وبدعوته، من أمثلة ذلك أبو لهب وأُسرته، فقد ورد في كتب الصِّحاح أنه عليه الصلاة والسلام صَعِدَ على الصفا، فجعل يُنادي: 'يا بَني فِهْرٍ، يا بنِي عَدِيٍّ” لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسلَ رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: 'أرأيتُكم لو أخبرتُكم أنَّ خَيلاً بالوادي تريدُ أن تُغيرَ عليكم أكنتُم مُصدِّقيَّ؟' قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلا صدقاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد'، فقال أبو لهب: تبّاً لك سائرَ اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.
وورد أنَّ عتبة بن أبي لهب كان يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه فقال: 'اللَّهُمَّ سلِّط عَلَيْهِ كلباً من كلابك'، فَخرج فِي قافلة يُرِيد الشَّام فنزلوا منزلاً فَقَالَ إِنِّي أَخَاف دَعْوَة مُحَمَّد، فَقَالُوا لَهُ: كلا، فحطُّوا مَتَاعه حولَه وقعدوا يحرسونه، فجَاء الْأسد فانتزعه فَذهب بِهِ. (رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد).
فكانت العبرة: أنَّ التافهين الذين يحاولون أن ينالوا اليوم من جَناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأمثالِ عَبَدة البقر من الحزب الحاكم في الهند، وغيرهم من الحاقدين الوَقحِين هم في انتظار مصرع سوء ونهايةٍ فاضحة ستخبر عنها الأيام، كالتي حاقت بأسلافهم، ويشترك في هذا المصرع وهذه النهاية كلُّ مَن يشجّع جريمتَهم النكراء هذه مِن حكّام العرب والمسلمين.
أخيراً: إنّ ذكرى الهجرة ليست حدثاً عابراً يجري كما تجري الأيام ثم يُنسى ويزول، بل هي استيلاد أمّةٍ؛ غيّرتْ وجهَ التاريخ، فلا يليق أن يُسأل المسلم عن اليوم منه فلا يعرفه، ولا يليق بإعلامنا الموجّه أن يتغاضى عن التذكير به وبأخباره وعِبَره.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة