من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
لقد جعل الله سبحانه في كتابه العزيز ما يشير إلى أثر أشخاص مرّ ذكرهم تصريحًا أو تعريضًا إلى أنّهم غيّروا بوصله التاريخ في عصرهم. وهم لم يكونوا أنبياء مرسلين لهم العصمة، ويتنزّل عليهم وحي السماء، وإنّما كانوا في أصلهم بشرًا عاديّين، ميّزهم الله بما ينفع الحقّ والدين، وبقول قول الحقّ مقابل ألوف مؤلَّفة من الأعداد حولهم صامتة ولا تكاد تبين.
فقد ضرب الله من الأمثال في ذلك ما نقف عليه تباعًا. فقد ذكر الله خبر رجل صالح هو حبيب النجّار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى بشهادة القرآن عنه، وما كان هو من أمّة محمد عليه الصلاة والسلام وإنّما هو من أمّة التوحيد وهي أصل رسالات الأنبياء جميعًا من لدن آدم وإلى سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا الرجل ما كان همّه مالًا ولا جاهًا، بل قول الحقّ والجهر به على الملأ. فكان أن أمعنوا في تعذيبه وأخرجوا له أحشاءه لقاء إيمانه بالمرسلين وتكذيبه بعبادة المشركين الأفّاكين. ولكنّ الله بشّره بما قاله هو بعد أن لاقى نعيم الله ومغفرته له وجعله من المكرمين، قال تعالى بحقّه: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بما غَفَرَ لي ربّي وَجَعَلَني من المُكْرَمين (27)}(سورة يس). وقد ضرب الله مثلًا آخر بغلام عظيم كان في عصرِ ظالمٍ جبّار ادّعى الربوبيّة ووقف في وجهه غلام يافع. لم يحجبه عن قول الحقّ ويرهبه أن رأى من آمن معه يُنشر بالمنشار نصفين، وقال للملك الكافر: إنّك لن تقتلني إلّا بأن تقول بسم الله ربّ الغلام. وتجمّع الناس لذلك المشهد وظنّ الملك الطاغية أنّ الأمر لن يتجاوز بضع كلمات يقولها وينتهي الأمر، ولكنّ الذي حدث أن ردّد الجميع آمنّا بربّ الغلام. فكانت الأخاديد وكان العذاب الشديد لقاء الإيمان ودفع ثمن التوحيد.
قال تعالى في ذلك المشهد العظيم: {قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ(4) ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ(5) إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ(6) وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ (7)} (البروج). ومن غيّر الموقف كلّه وجعل الإيمان يعمر المكان ويقف الظالم وجنده موقف المنتقم العاجز عن ردّ من آمن بالواحد الديّان إلى حظيرة الشرك والعصيان. وكلّ ذلك أجراه الله على يد غلام قدّم روحه ليعلوَ اسم الله وتسقط الأوثان ويستمر العطاء من بعد ما ذكرناه إلى الحاضر من الزمان. فيمرّ علينا من العظماء الصلحاء من قدّموا أروع الأمثال في فداء دينهم وأوطانهم بأنفسهم وبمن ناصرهم وكان سندًا وعونًا لهم، فكانت القضيّة الأم فلسطين، وكان من حمل لواءها القائد العظيم عز الدين القسّام.
وهو شيخ من علماء الأزهر الشريف تعلّم على يد والده الذي كان بدوره إمام أحد المساجد في الساحل السوري. وحمل الشيخ عز الدين عن والده العلم الشرعي النافع ومزج معه رفع السيف في مقارعة الأعداء، وعدم الاكتفاء بالوعظ الديني والاختباء. وهو ما يشير إلى أنّ العالم ينبغي أن يجمع مع العلم الشرعي الذي يحمله قول الحقّ لمن يظلمه ويظلم أهل دينه، ولا يكن ناسكَ محاريب ولا واعظَ كتاتيب فقط. فكما العلم باب من أبواب الجنّة، فكذلك الجهاد هو باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه. وقد قدّر الله لزمن عز الدين القسّام أن يكون عصرًا احتلّ فيه الفرنسيّون الساحل السوري نهاية الحرب العالميّة الأولى، فثار القسّام في جماعة من تلاميذه ومريديه، فطارده الفرنسيون. فقصد دمشق، ثمّ أقام في حيفا في فلسطين، وتولّى إمامة أحد المساجد، وجمع مع ذلك العمل الشريف قيامه بتكوين جماعة سرّية عرفت أبيّة العصبيّة القساميّة. ومع تشديد الاحتلال البريطاني الرقابة عليه انتقل القسّام إلى الريف، وأقام في قضاء جنين ليبدأ عمليّاته المسلّحة من هناك، ومع وجود الخونة والعملاء في كلّ زمان ومكان تعرّف العدوّ الإنكليزي إلى مكانه، فحاصره ومن معه من الثلّة المؤمنة المجاهدة، طالبًا منهم الاستسلام. ورفض البطل الهمام وهو يقول في نفسه ما قاله قبله المجاهد الكبير عمر المختار لمن احتلّ أرضه من الطليان في ليبيا: 'نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نستشهد'. وقد مات القسّام شهيدًا ومن كتب الله لهم الشهادة معه من رفاقه، كما استشهد قبله عمر المختار فداء دينه وأرضه. واليوم يعيد التاريخ نفسه ويظهر من هم أحفاد عز الدين القسّام، ومن أشربت قلوبهم بإيمان حبيب النجار، وغلام أصحاب الأخدود، ومن ربّاهم شيخ المجاهدين وكان قعيدًا على كرسيّه، ولكنّه قد صنع ما لم يصنعه عتاة الرجال الواقفين على أقدامهم ـ أردت به الشيخ أحمد ياسين الذي أراد أن يعيد لفلسطين وقضيّتها وجهها الإسلامي الإيماني المجاهد المشرق، وأنّ هذه القطعة الغالية المباركة من أرض الرباط ومسرى رسول الله ومعراجه في قدسها وأقصاها إلى السماء أنّما هي أرض باركها الله وبارك من يزيل أغلال العبوديّة عن رقاب أهلها ـ وقد كان للقائد المسلم صلاح الدين الأيوبي السبق في هذا الشرف عندما حرّرها من رجس الإفرنج الصليبيّين.
ولا بدّ أن يتّبع الأبناء رسالة الآباء فكان طوفان الأقصى بداية لهذا التغيير وإعادة إحياء القادة العظماء الذين لم يتربّوا على موائد السلاطين ولم يفتوا بالقعود المستكين ولم يتجاوز علمهم سوى الحديث في البدع واحتفال الناس بالمولد وعظيم إثم ذلك ومنكرات التزيين، وقادهم أنّ الأمّة كلّها في خطر وجود، وأنّ اليهود الغاصبين وأعوانهم الكافرين قد أحكموا ومنذ عشرات السنين الحصار المطبق على فلسطين وعلى درّتها منبع الأبطال القساميّين في غزّة، حيث تربّى الولدان والشيبان والفتيات والفتيات على موائد القرآن مأدبة العزيز العلّام، فكانوا أنموذجًا للعالم الإسلامي كلّه في الصلاة والصيام والقيام والجهاد والرباط في ثغور الإسلام.
وبقي مسك الختام وإن لم يكن آخر عطره الفوّاح بأريج طعم الجنان الشهيد العظيم يحي السنوار الذي أذاق اليهود الغاصبين أحفاد القردة والخنازير طعم المرارة والانهزام. وأعطى لأمّته طعم العزّة والكرامة والعنفوان. وهو الذي قضى عمره المبارك زهاء ثلثه في غياهب سجون الأعداءـ وكان قادرًا على العيش المنعم الوثير وعلى الفرار بنفسه وأهله من الأنفاق إلى نور الشمس، ولكنّ الحقيقة أنّ أنفاقهم مع ظلام دهاليزها هي مشرقة مع غياب شمس الدنيا عنها، ولكن من هم في ظلام حقيقي من لم يذوقوا طعم الكرامة ولم تشرق عليهم شمس الشهادة، لأنّ العظماء الحقيقيّين هم من أضاء الله حياتهم بنور معرفته، وهم قد أضاؤوا لأنفسهم مشاعل النور في سجل الخالدين والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة