كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
وإذا جاء من يقول لنا إنّ الشياطين منهم من يعلمون الغيب وقد كان منهم من سخَّره الله لبعض عباده ومنهم سيدنا سليمان عليه السلام. والأمر فيه خلط وتخبُّط عند من يروِّج لهذا القول.
وذلك أنّ القرآن قد أبان من تلك الأحوال ما يؤيِّد نفْي مدعى أنّ الجنّ في عهد نبيّ الله سليمان، وفي كلّ عهد، كانوا يعلمون الغيب. فأمّا في عهده فقد ورد في السِيَر عن ابن وهب قال: 'قال ابن زيد في قوله تعالى: {ما دلّهم عليه إلّا دابّة الأرض تأكل منسأته} أي عصاه. قال: قال سليمان لملك الموت يا ملك الموت إذا أُمِرْت بي فأعلمني، قال فأتاه، فقال: يا سليمان قد أُمِرْتُ بك قد بقيَتْ لك سُوَيْعة، فدعا الشياطين فبنوا له صرحًا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّي واتّكأ على عصاه، قال فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو مُتّكِىء على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت، قال والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبونه حيّ، قال: فبعث الله دابّة الأرض تأكل العيدان يقال لها القادح، فدخلت فيها فأكلتها حتّى إذا أكلت جوْف العصا ضعفت وثقل عليها فخرَّ ميِّتًا، قال: فلمّا رأت الجنّ ذلك انفضّوا وذهبوا'.
ومن هنا يتبيّن أنّ الجنّ وكما أخبرت لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، ويمتد ذلك بهم إلى ما قبل عصر النبوّة الخاتمة.
وإن كان في الأمر ما يُوْهم غير ذلك فإنّ القرآن يقول حكاية عن الجنّ: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}.
يقول عزّ وجلّ: وأنا كنّا معشر الجنّ نقعد من السماء مقاعد لنسمع ما يحدث، وما يكون فيها، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} فيها منّا {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} يعني: شهاب نار قد رُصِدَ له به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذُكر من قال ذلك: حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ... إلى قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} كانت الجنّ تسمع سمع السماء؛ فلمّا بعث الله نبيّه، حُرست السماء، ومُنعوا ذلك، فتفقَّدت الجنّ ذلك من أنفسها.
وذُكِر لنا أنّ أشراف الجنّ كانوا بنصيبين، فطلبوا ذلك، وضربوا له حتّى سقطوا على نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي بأصحابه عامدًا إلى عكّاز.
حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا... حتى بلغ {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} فلمّا وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين ما يشير إلى ما أراد الله به فتنة عباده واختبارهم، بأن كان للجنّ قبل بعثة سيّدنا محمد عليه الصلاة والسلام ما يفيد بقدرة القوم على الوصول بالسمع لهم وبما يملكون من قدرة لا يملكها الإنس في ذواتهم إلى السماء الدنيا فيسترقون السمع لنقل أخبار أهل السماء إلى بعض أهل الأرض من أعوانهم.
وبيان ذلك تجده فيما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: 'كان الجنّ يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعًا. فأمّا الكلمه فتكون حقًّا، وأمّا ما زادوا فتكون باطلًا. فلمّا بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يُرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس: هذا الأمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بين جبليْن، فأتَوْه فأخبروه، فقال: هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض.
ومن هنا يمكننا القول إنّ علم الغيب في معناه المطلق لا يعلمه إلّا الله وفي معناه المقيّد قد أعطى بعض علمه منه لبعض عباده من الأنبياء، وبعض خواصّه من الأولياء، ومنهم العبد الصالح الخضر عليه السلام، حيث قال تعالى بحقّه: {فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علمًا}. ولا بدّ من التمييز بين الخوض في علم الغيب الذي لا يحترفه إلّا المنجّمون العرّافون والذين استحق الوعيد الشديد مَن صدَّقَهم ومن جاء على سبيل التسلية عليهم فقال عليه الصلاة والسلام: 'من أتى كاهنًا أو عرّافًا فلم يصدّقه لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا، ومَن أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدّقه فقد كفر بما أنزل على محمد'. هذا لمن أتى إليهم عقابه، فكيف بأصحاب هذه الفرية والكذب فماذا يستحقّون؟ أقول ينبغي التفريق هنا في كلّ ما ذكرنا وما هو داخل في علم الفراسة والتي أخبر عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: 'اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله'. وما حديث عمر في الخطبة عن سارية الجبل عمّا ذكرنا ببعيد، والله تعالى يقول: {إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين}، فكلّ ذلك لا يدخل في الرجم بالغيب الذي يقترفه اليوم الكثير من الرجال والنساء حيث قد وضعت لهم المواقع التي يعرضون فيها تخرّصاتهم وأباطيلهم في ما سيحدث من أحوال للبشر أفرادًا ومجتمعين. ويكفي أن تسأل الواحد منهم من وراء الباب لتعرف بطلان حديثه وإفكه. وما يُستشهَد به هنا ما ورد أنّ أحد زعماء العالم المعاصرين وهو ستالين حاكم روسيا، وقد كان ملحدًا في ذاته، ومع ذلك فقد أخبره حرس القصر أنّ بالباب رجل عنده معلومات وتنبّؤات يمكن أن تنفع في حرب بلادهم مع الألمان آنذاك، فأمر ستالين بقتله فورًا. ولمّا سألوه عن سرّ استعجاله بقتله، قال: إنّه كذّاب، لأنّه لو كان يعلم الغيب لما أتى إلى الموت بقدميه.
ومن هنا نخلص إلى القول إنّ من يضعون أنفسهم في موضع استشراف المستقبل ومعرفة حظوظ العباد، وما هو مخبوء لهم، من الأوْلى لهم شرعًا وعرفًا أن ينصرفوا عمّا هم فيه مجترئون ويتركوا علم الغيب لمن يعلم السرّ وأخفى. والله الهادي إلى سواء السبيل. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
ضَوْءٌ لَمَعَ وَسَطَ المَدِينَة
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء العاشر
هكذا هو!