الذكاء الاصطناعي والإفتاء عند الشباب المسلم المعاصر
أهمية الفتوى
في الوقت الذي تلعب الفتاوى دورًا حيويًّا في توجيه المسلمين وتقديم الإرشادات الدينية في قضايا الحياة اليومية، من العبادات والمعاملات إلى القضايا الاجتماعية والأخلاقية، والسياسة الشرعية، حيث تُقدِّم توجيهات شرعية للمسلمين في مختلف جوانب حياتهم، فالفتوى كما عُرفت أنها: "هي الإخبار بحكم الله تعالى جوابًا عن سؤال بدليل شرعي على غير وجه إلزام"، فإنَّ المُطَّلع على سير حركة الثورة الرقمية والتطور السريع للتكنولوجيا يَعي حقيقة ما قد تقوم به هذه الأدوات من خدمة جليلة للبشرية إن تمَّ استخدامها بشكل حَسن ونافع، فهي كالسلاح ذي الحَدَّيْنِ، وبالرغم من دور الذكاء الاصطناعي المهم في تحسين عملية إصدار الفتاوى، إلا أن هناك العديد من السلبيات والتحديات التي يجب الانتباه إليها، كما يجب _ إن كان ولا بدَّ من استخدام الذكاء الاصطناعي_ أن يُستخدم بحذر وبإشراف علماء مؤهّلين لضمان دقة الفتاوى الصادرة وموثوقيتها.
تعريف الذكاء الاصطناعي:
إنه تطبيقٌ على الهاتف المحمول وجزء من علوم الحاسب يهدف إلى تصميم أنظمة ذكية تعطي نفس الخصائص التي نُعَرِّفها بالذكاء في السلوك الإنساني، فهو قدرة جهاز الحاسب على أداء مجموعة من الوظائف تعرف عادة بالذكاء الاصطناعي.
وهو فرع من فروع علوم الكمبيوتر يهدف إلى تطوير آلات وأنظمة ذكية قادرة على أداء المهام التي تتطلب عادةً ذكاءً بشريًا مثل التعلُّم، التفكير، وحلّ المُشكلات، يشمل الذكاء الاصطناعي مجموعة من التقنيات المتقدمة مثل التعلم الآلي، الشبكات العصبية، ومعالجة اللغة الطبيعية.
إن بإمكان الباحث أن يطرح أي سؤال على هاتفه المحمول، تطبيق (Chat GPT) مثلًا لأي موضوع كان، فيجيبه بسرعة لا تتعدى الثواني، وتظهر أجوبته مطبوعة على الشاشة.
أمثلة: تمَّ طرح خمسة استفتاءات على الذكاء الاصطناعي: اثنان في الفقه الإسلامي وثلاث في السياسة.
المثال الأول: مسألة المصافحة:
عند سؤال الذكاء الاصطناعي عن حكم المصافحة كان جوابه التحريم عند المذاهب الأربعة وعند جمهور العلماء، وعند سؤاله عن الفتوى نفسها لدى العلماء المعاصرين، من أمثال أ.د. وهبة الزحيلي (ت 2015م)، في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (مبحث أحكام النظر والمصافحة) والدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (ت 2013م)، من كتابه فقه المرأة المسلمة وفقه السيرة النبوية عند حديثه عن بَيْعَةِ النساء واستدلال العلماء بحديث: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"؛ [رواه الترمذي وقال حسن صحيح] والعلاّمة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي (ت 2022م)، من كتابه فتاوى معاصرة، كُلٌّ على حِدّة: كان جواب الذكاء الاصطناعي بأنّ الثلاثة أفتوا بجواز المصافحة رَفْعًا للحرج، على ألا يتجاوز ما يرفع الحرج تحت قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسير".
وهذا جواب مغلوط، أعظم الذكاء الاصطناعي الفِرية على البوطي والزحيلي اللذين لم يفتيا بذلك ألبتة، وإنما أفتى بجوازه القرضاوي في فترة من حياته في سياق خاص وضمن شروط محددة.
المثال الثاني: حكم المسح على الخُفين
بعد السؤال يلاحظ بأن الذكاء الاصطناعي عرض الحُكْمَ بدون ذكرٍ لآراء العلماء لأن الحكم مُجمع عليه، "فقد اتفقت المذاهب الأربعة على جواز المسح على الخفين لثبوت المسح عليهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولكن قد تختلف الإجابة عن الأخرى باختلاف صيغة السؤال، وفي حال كان السؤال عن الحكم مع ذكر المصادر، فإنه يقوم بالإجابة بشكل تفصيلي أكثر، مع ذكر آراء المذاهب، بالإضافة لدعم هذه الآراء بالمصادر، إلا أنه بعد تدقيق المصادر يُلاحظ بأنها قد تكون مقاربة ولكن غير دقيقة، فبعد التدقيق تبين أن هناك خلط في مصادر الإجابة من حاشية ابن عابدين، والمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي، والمُدَوَّنَة الكبرى للإمام مالك.
وعليه يمكن القول بأن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي وخاصة في مصادر آراء المذاهب والفقهاء، لا يمكن الوثوق به لعدم دقَّته وموثوقيته، خصوصًا وأنه لا يذكر طبعات الكتب.
المثال الثالث: من الفتاوى المستجدة والمعاصرة: حُكم الجهاد ضد الصهاينة في فلسطين
حيث تمّ سؤال الذكاء الاصطناعي عن الحكم فأجاب بمشروعية حكم الجهاد في الدين الإسلامي، دون التأكيد على وجوبها، بل ربطها الذكاء الاصطناعي بالقيادة الشرعية، وهذا ما قد يُشكِل على البعض خاصة لتباين مفهوم القيادة الشرعية ومن يمثلها في هذا الزمن.
المثال الرابع: هل وجود إسرائيل شرعي؟
كان جواب الذكاء الاصطناعي بالحرف: سؤالك حسّاس ويتعلَّق بقضية سياسية – تاريخية معقَّدة يختلف فيها الناس بشكل كبير، مما يعطي انطباعًا لدى المستفتي، أنَّ الموضوع خلافي، ثم يسوّق الذكاء الاصطناعي اعتراف الأمم المتحدة وكثير من الدول بإسرائيل عندما أُنْشِئت عام 1948م.
يتابع الذكاء الاصطناعي قائلًا وبالحرف: بالمقابل، هناك قرارات دولية عديدة تؤكّد عدم شرعيَّة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية مثل الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزَّة والجولان وتعتبرها أراضي محتلة يجب إنهاء احتلالها، إذن الدولة معترف بها دوليًا، لكن سياساتها التوسعيّة واحتلالها لأراضٍ أخرى غير معترف بها قانونيًا... والقانون الدولي لا يُصدر حُكمًا على "شرعيّة وجود الدول" نفسها بعد اعتراف المجتمع الدولي، لكنه يُقيِّم سلوك الدول.
لقد أغفل الذكاء الاصطناعي في إجابته مؤتمر هنري كامْبِل بانرمان الوزير البريطاني الذي عقد في لندن عام 1907م والذي جمع فيه دول العالم في أوروبا وغيرها لإنشاء مشروع يهودي صهيوني تابع لهم وزرعه في قلب العالم الإسلامي في الشرق الأوسط آنذاك، وهو الذي يتكلَّم لغة واحدة هي العربية، وعنده دين واحد هو الإسلام وذلك لفصل مَشْرِقِه عن مَغْرِبِهِ ولإضعاف المسلمين وتمزيقهم، وها هو نتنياهو اليوم يتحدث عن مشروع إسرائيل الكبرى في الشرق الأوسط وهيمنة الصهيونية على الدول الإسلامية.
المثال الخامس: ما هو مؤتمر كامبل – بانرمان عام 1907؟
يجيب الذكاء الاصطناعي على هذا السؤال بخلاصة فيقول بالحرف: أسطورة سياسية (Myth) وليست حقيقة تاريخية مثبتة.
عدم امتلاك العالم الإسلامي لزمام الأمور التكنولوجية
إن من أهم الأسباب التي تستدعي التأمُّل والوقوف عليها لما لها من خطورة عدم امتلاك العالم الإسلامي لزمام الأمور التكنولوجية، وخاصة فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي وما يتعلق به من الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، فإنه من المعلوم أن اتجاه القائمين على الأمر وتَحَيُّزهم وما يتنج عن ذلك التحيُّز والتطرُّف من رفع قواعد البيانات الخاطئة، والتي مهمتها التشويه والطعن بالإسلام ما استطاعت، وهذا ما أشار له الدكتور ماجد درويش في أحد اللقاءات مع قناة قاف الفضائية حيث كان البحث على موضوع معين، فإنَّ ظهور المواضيع التي تدعم الأفكار المشبوهة والمغلوطة أحيانًا سابق على ظهور المعلومات الصحيحة الأخرى - إنْ وُجِدَتْ أصلًا-، ومن السهل أيضًا تغيير البيانات المدخلة أو اختراقها. وهذا من شأنه أن يُفقد الموثوقية بمنظومة الذكاء الاصطناعي وخاصة بما يتعلق بالفتاوى والأمور الشرعية، ناهيكم عن عدم وجود هيئة رسمية إسلامية معتبرة تسد هذه الثغرة وتقوم مقام المحافظ للأمة الإسلامية تكنولوجيًا.
الذكاء الاصطناعي يثير الشُّبهات ويُزعزع المجتمع:
لا يخفى على المتبصر النتائج السلبية من خلال إثارة الشبهات والفتاوى الشاذة التي قد تطغى وتنتشر بفعل خوارزميات معينة، وهذا الأمر كافٍ کي يعكّر على الأمة الإسلامية صفاء سريرة الناس، وتقوم بزعزعة المجتمع الإسلاميّ بطرح ما يثير النعرات الطائفية، من خلال اجتزاء بعض النصوص أو نشر الأحاديث الموضوعة أو المكذوبة أو الفتاوى الشاذة والآراء الباطنة، ومن غير اليسير على عامة الناس التفريق أو التمييز بين الغث والسمين بما يُنشر على هذا الفضاء الواسع السهل المنال للجميع، فحُق علينا كأمة إسلامية الانخراط في هذا المجال لسد حاجة الأمة الإسلامية تكنولوجيًا ]وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[ [التوبة: 122]، ولعل هذه الآية تكون لنا منهجًا في السعي لتحصيل العلوم الدنيوية النافعة، والقيام بمهمة الحفاظ على الهوية الإسلامية في عالم التكنولوجيا، وحِماية صَفاء المنابع التي ينهل منها الباحثون.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




الذكاء الاصطناعي والإفتاء عند الشباب المسلم المعاصر
الانتماء الوظيفيّ مقاربات في سُبل تنميته، وانعكاساتُه على بيئة العمل
المرأة والفتن الإعلامية… وعيٌ إيماني في زمن السوشيال ميديا
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الحادي عشر
عالم الجيولوجيا والداعية الإسلامي الكبير د. زغلول النجار رحلة الإيمان في معارج القرآن