من المحراب إلى الطمأنينة: قصة ابنة عمران في القرآن
يقول الله تعالى في مُحكَم آياته:
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: 35]
﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: 36]
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]
هكذا بدأت قصة أطهر نساء العالمين، مريم عليها السلام؛ قصة ابتدأت بدعاءٍ خالصٍ صادق، رُفع إلى الله تعالى بإخلاصٍ وتسليم، فتمّ القبول الإلهي، وبدأت الرعاية الإلهية منذ اللحظة الأولى.
نشأت مريم عليها السلام في كنف بيت المقدس، شابةً عابدة، واثقةً بربها، ثابتة اليقين، مؤمنةً بقضاء الله وقدره.
اجتمعت فيها أسمى الصفات التي ميّزتها عن سائر نساء الدنيا؛ فصانت نفسها وعفّتها، وصدّقت بما أنزل الله تصديقًا كاملًا نابعًا من يقينٍ راسخ، وكانت من القانتات العابدات، تُخلص لله في سرّها وعلانيتها، مسلّمةً له تسليمًا كاملًا.
الاصطفاء الإلهي
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42]
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]
بعد أن أظهرت مريم عليها السلام صدق عبادتها وحسن استقامتها، أنعم الله عليها بالاصطفاء، كرامةً لم تُمنح لغيرها من النساء.
وكأنّه تأكيد من الرحمن على الطريق المستقيم الذي كانت تسلكه، وتشجيع على الثبات في القنوت، فما نهاية هذا السبيل إلا رضوانٌ من الله ورحمة.
وما خلّد القرآن الكريم اسمًا أنثويًا كما خلّد اسم مريم ابنة عمران، شاهدًا على رفعة منزلتها وكرامتها عند بارئها.
الابتلاء العظيم
﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 18]
﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: 19]
﴿قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ [مريم: 20]
يختبر الله العابد بالابتلاء، ولعلّ أكثر ما يُضعف تصديق الإنسان الكامل لحكمة ربّه يكمن في كثرة الابتلاءات وتأخّر الفرج. هنا يُمتحن صدق المؤمن وثبات يقينه.
فكم من مرّةٍ انتشلتنا القدرة الإلهية من ذروة اليأس وانعدام الأمل، بعد أن عجزت كل حلول الأرض عن إنقاذنا؟
ومريم عليها السلام، رغم شدّة الابتلاء الذي وقع بها، التزمت بأمر ربّها التزامًا كاملًا، وخضعت له خضوعًا تامًّا.
وتُقاس عظمة المنزلة التي مُنحت لها بعظمة يقينها وثباتها، وهي وحدها في مواجهة سوء القوم الذين وجّهوا إليها الاتهامات القاسية.
الطمأنينة الإلهية
﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: 24]
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25]
﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: 26]
لم يتركها الله قطّ، وهنا تتجلّى الرعاية الإلهية بأبهى صورها.
يا مريم، ابذلي وحاولي وتوكّلي على الله؛ هُزّي إليكِ بجذع النخلة، وإن كنتِ في خِضمّ المخاض عاجزةً عن إسقاط حبّةٍ واحدة من الرُّطب، فعليكِ بالمحاولة بيقين، والله متكفّل بالنتيجة.
ويا مريم، صومي عن الكلام، وإن اتهموكِ باطلًا فأشيري إلى رضيعكِ، حتى وإن كان رضيعًا لا يملك القدرة على النطق بحرفٍ واحد، فعليكِ طاعةُ أمر ربّكِ بيقين، وهو المتكفّل بالنتيجة.
ونحن؛ قد نتخلّى ونصاب بالفتور لمجرّد أنّنا، ببصائرنا المحدودة، لا نرى نتيجةً تُرضي طبيعتنا ورغباتنا الإنسانية.
ولذلك علينا أن نتعلّم من هذه العِبر الخالدة أنّ اليقين بالله لا يُقاس بقدرتنا، بل بطاعتنا، وأنّ النتائج كلّها بيده متى صدق التوكّل وسلم القلب.
وانطلاقًا من هذه القصة القرآنية العظيمة، ومن تلك المنزلة الكريمة، طوبى لكل قلبٍ أيقن، وثبت، وأطاع… ثم انتظر الفرج من ربٍّ لا يُخلف وعده.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




من المحراب إلى الطمأنينة: قصة ابنة عمران في القرآن
تمييز وتبيين: بين لكم دينكم ولِيَ دين
هل تعبّر هوّية الـنّصوص عن هويّتنا في مناهجنا الدّراسيّة؟
اقرأ...
وقفـات.. قبل الممات والفوات!