غابة يا دنيا... غابة!
هذا الأرنب اللطيف الذي ترونه في الصورة.. كان نجماً في أحد الأنشطة التي نظّمتها جمعية تُعنى بأمور الناشئات.. وقتها استقبلناه ضيفاً في مكاتبنا حتى يحين موعد النشاط فجاورني لبضع ساعات..
الصندوق الورقيّ الصغير الذي لم يكن لائقاً بالمقام كان منزله المؤقت.. إحدى الموظفات أحضرتْ له ضيافة عبارة عن بضع وريقات من الخس.. وأخرى دثّرته بقطعة قماش خوفاً عليه من البرد لا سيما عندما تلمسنا أذنيه الطويلتين فوجدناهما باردتين كالثلج..
حين دبّ الدفء في أوصاله حاول الخروج من الصندوق.. يريد أن ينطلق في رحاب الغرفة الفسيحة.. مددتُ إليه يداً لأساعده فأصابه الجبن والخوف وتكوّر على نفسه حتى أصبح كرة صغيرة من الفرو بحجم قبضة اليد، مخبئاً وجهه في طيات قطعة القماش..
ذكّرني هذا المخلوق الصغير.. الجبان.. شديد الحذر.. وعالي الحساسية.. بحالي..
حين أتعرض للمواقف الصعبة والمؤذية .. كنت أجبن عن المواجهة.. وبعدها أتقوقع على نفسي لأصبح كتلة مشاعر مغلقة.. والحل الأمثل بالنسبة لي الهروب كالأرنب المذعور والاختباء في جُحْري.. أقصد بيتي ملاذي الآمن؛ حيث أهرع إلى وسادتي أشكو لها.. وأستيقظ في اليوم التالي وكأن شيئاً لم يحدث، ولكن تقاسيم وجهي كانت تفضحني.. فتبتسم لي أمي ابتسامة ذات مغزى وتودِّعني وأنا خارجة من باب المنزل إلى مدرستي… ثم جامعتي .. وبعدها إلى وظيفتي.. بعبارتها المعهودة: (ما تُبقي على نياتك.. المثل يقول: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب!) وقتها كنتُ أتصنّع الضحك وأقول بسذاجة: وهل نحن في غابة يأكل فيها القويُّ الضعيف؟! ثم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (رواه الشيخان)
وبقيت أرنباً و(على نياتي)…
كنت أصبّر نفسي بالقول لها: إن الإساءات تصدر من أُناس بعيدين عن دائرة التديّن، فكانت الشفقة تحل محل الألم في نفسي.. ولكن حين صدرتْ ممّن توسَّمتُ فيهم الصلاح والالتزام صُدمت لأني لم أجد فرقاً كبيراً بينهم وبين غيرهم من غير المتدينين في أخلاقهم وتعاملاتهم.. وشعرت حينها أنني خرجت من غابة ودخلت في أخرى!!!
مع ذلك لم ولا ألومهم وحدهم؛ فالكثير من الإساءات التي تعرَّضتُ لها كانت من كسب يدي؛ وذلك حين تعاملت مع الناس على أساس أن ضعفي طيبة.. وسذاجتي براءة.. وعجزي حِلْماً.. وغبائي حُسْن ظن... وحتى أخفف من وطأة الإساءات ووقعها عليّ كنت أدّعي أني أطبق قول الله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (المائدة: 54)... فكانت الضريبة التي دفعت ثمنها أن تجرّأ عليّ الآخرون وضاعت بعض حقوقي.
سبحان الله.. بعد هذا العمر.. وبعد أن أنهك قلبي الوجع.. فهمت ما كانت تعنيه أمي..
فهمت أن الصبر على أذى الناس لا يعني أن يصير الواحد منا (مَلْطش) للآخرين يستخفّون به ولا يُقيمون له وزناً..
فالله تعالى يلوم على العجز كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حينما قضى بين رجلين؛ فقال: «إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس؛ فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل» رواه أبو داوود،و«لا يُلدغ المؤمن من جُحْر واحد مرتين» رواه مسلم، و«المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير» رواه مسلم...
كما أن الصبر على أذى الناس لا يُنافي دفعه بالتي هي أحسن.. حتى لا يزدادوا عتواً وإيغالاً في المفسدة...
تُرى...
هل أصبحتُ ذئباً بعد ذلك؟
الجواب: لا.. لم أصبح ذئباً..
ورغم أنني في قرارة نفسي أتوق للهروب إلى جحري.. أقصد منزلي ملاذي الآمن.. كلما صادفتني بعض المشكلات والمواقف الأليمة التي تفضح حاجتي لمزيد من التدرّب على فنون المواجهة والدفاع... إلا أنني قطعاً لم أعد أرنباً..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا