على أعتاب عام جديد..
أسمع وقع نعاله وهو يرحل.. لطالما هدّني الفراق.. وخطَّ على شغاف القلب حرقةً وحنيناً.. عامٌ من حياتي يغادر.. لم تكن مجموعةَ أيام هي مَن انسلخت عني هذه المرة.. وإنما حفنة من ذكريات رائعة.. وحوادث عِظام.. ووقائع جِسام..
وأترنّح اليوم بَيْن بَيْن.. أضمّ مشاعري إليّ وأبكي.. تارة فرحاً.. وتارة غضباً.. ولربما احتجتُ إلى أيام قادمة لأستوعب ما حدث..
لعل هذه السنة الراحلة كانت الأكثر امتلاءً مقابل سنوات عجاف كثيرة قبلها.. فقد شهدت ثورات الربيع العربي الذي هزّ عروش الباطل ولا زال.. وهدَمَ أصنام الطواغيت الذين جثموا على صدور الشعوب دهراً.. فاقتاتوا خيرات البلاد وما شبعوا.. وامتصّوا دماء الرعايا وما خجلوا! ويكأنّ الأرض أرضهم والهواء هواؤهم حتى يُخيَّل للرائي أن الله جل وعلا ما خلق الموت والحياة إلا ليسعدهم.. وقد خسئوا!
وفي ميدان آخر.. تجد القلب حائرا.. أيسعد بتلك الهجمة الكبرى لانتزاع الحرية من بين براثن الطغاة.. أم يبكي الدماء الطاهرة التي تروي الأرض هنا وهناك؟!
ذبحتني حمصُ وأخواتها.. حتى ما أبقت في الوريد دماءً! ولا تدهشني مظاهر الثبات رغم الألم.. فقد سلّم الجمع الروح والنفس لله جل في علاه.. وسطّر أغنية المجد.. فلا استكانة ولا هوادة.. عزَم أن لا يتوقف مداد الثورة حتى يظفر بالحرية.. ويا لها من مطلب غالٍ غال! يستحق!
لم يثنهم تخاذل العرب والعجم عن النصرة.. لم يعد يغريهم النظر إلا إلى السماء.. هجروا الأبواب إلا باباً واحداً لا يخيب طارقه.. وأعدّوا العدّة لاستقبال النصر.. ولو لم يبق منهم إلا القليل.. فقد آن الأوان أن ينهزم نافخُ الكير!
مذ بدأت الثورات ورقص القلب لها.. لم تهزّني ثورة كثورة الشعب السوري.. وحين اندلعت خرجت من فمي كلمة ما استطعت ابتلاعها: سوريا؟! معقول؟! سيسحقهم!
هذا لأنني أعلم ماذا يعني النظام السوري.. فقد عربد في بلدي دهراً.. ولا زالت بصماته ظاهرة على الأرض وفي الذاكرة.. وأن يقف شعبٌ في وجه ذاك الوحش الشرس فمعنى هذا أن نَبْتَ الكرامة أزهر في النفوس وقد فاض كأس الجَوْر.. ولم يعد للحياة معنى من دون الحرية! وقد أظهرت الأيام معنى أن تندلع ثورة في وجه أعتى الأنظمة وأظلمها.. دباباتٌ تقصف شعباً أعزل.. والشهداء يرتقون بالآلاف.. بربكم.. كيف يطيق القلب احتمال هذا الألم الذي لا يمكن تصوّره ولا في الخيال؟! ولكن في سوريا.. لا شيء مُحال!
أزهرت في قلبي نبتة أمل.. فالشعوب سعَت وتسعى لاسترداد حريتها وكرامتها.. وقد كان الأمر فيما مضى مجرد حلم.. إلا أنه حصل.. فأصبح عندي تمنٍّ أن تنتقل العدوى إلى كل القلوب لنبذ الظلم والاحتيال في مؤسساتنا بكل أطيافها! لعل الجيل القادم يتربّى على هذه المعاني الراقية ويعشعش في كيانه مفهوم الحرية وعدم الخنوع! فيظفر!
في العام الراحل.. تحوّلت مفردات في بعض علاقاتنا مع أناس إلى غيرها.. واختلفت مسمّيات.. قد تكون خفَّت لدواعٍ لم نخترها.. إلا أن ما وصل إلى العمق لن ينتهي بتلك السهولة.. بل سيبقى ينثر بريقه في مساحات واسعة من القلب.. وإن خفيت عن النور.. وفي نفس ذاك العام.. دخل إلى حياتنا أناس أحببناهم.. وكلنا أمل أن تزهو علاقتنا بهم أكثر وأكثر.. وأن تتجذّر في عمق القلب.. حتى يصعب الفكاك!
السعادة والألم.. لا زالا يتناحران في حياتنا أيهما يثبت وجوده أكثر.. وقد يكون الألم في أحايين كثيرة هو الذي يسيطر.. إلا أن نظرتنا إليه تصبح أجمل حين نتّخذه مطيّة للارتقاء.. وهي هكذا الدنيا.. دار ابتلاء.. أفنضعف؟!
انظر إلى العام الآتي.. بتفاؤل وإيجابية.. فسيكون بإذن ربي جل وعلا أفضل.. وستنشر الحرية أجنحتها على البلاد كلها.. وسيضمحل الخلاف بين المتخاصمين حتى يصلوا إلى خندق واحد يواجهون فيه الظلم معاً متعالين على المصالح الشخصية والخلافات الحزبية.. وسيظهر الحق.. وسيزهق باطل يحاول أن يبيّن الإسلام أنه دين عنف فإن وصل إلى الحكم هلك الناس! وسيلمّ الغريب شعث نفسه ليستقر.. وسيمزّق الثائر صفحة الخوف وقلب المستبد ليفخر.. وسيعزّ فيه دين الله جل وعلا ويلمّ شمل الأمّة وتنتصر.. وسنكون خير جنود لخير دين نعمل له بإخلاص ويقين.. وسيكون همّنا الأول كيف نُعيد للدّين مجده.. وسيندحر المغتصب بأي لهجة تكلم.. ويعود لفلسطين بريقها.. وسيتحرر الأقصى ونصلّي فيه بإذن ربي الأعلى.. والأقدر!
وسأبقى أتعجب.. كيف يتقلّب القلب.. من يوم تنفّس.. وحتى يغيب! وسيبقى يجتاحني الصدى.. والحنين!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن