أبناؤنا والمدارس العالمية
سألني سائل عن "المدارس العالمية" التي انتشرت في مجتمعاتنا في السنين الأخيرة، ويقول إنه أعرض عن إرسال أولاده إليها لأنه في ريبة من أمرها، والناس يدفعونه إليها ويشجّعونه على إلحاق أولاده بها لأنها – كما يقولون – أفضل من عامة المدارس العادية، الأهليه منها والحكومية، ولأنها تقوّي الطلاب في اللغة الإنكليزية التي يتلقون معارفهم بها. فأي الفريقين على صواب: هو بخشيته وحذره أم الآخرون باندفاعهم وثقتهم الشديدة في هذه المدارس؟
يا أيها الأخ السائل، لقد سألتني عن هذا الأمر فأثرتَ المواجع، والحمد لله الذي ألهمك أن تسألني حتى أكتب جواباً تطّلع أنت عليه ويطّلع عليه الناس، فمن شاء أخذ بنصيحتي ومن شاء أعرض عنها، ويكفيني أن أكون قد بلّغت.
سأقرّر أولاً أمراً أرجو أن نتفق عليه كلنا، فإن لم نفعل فلا نفع في قراءة ما بقي من هذا الجواب: إن "العلم" مقصد من المقاصد الكبيرة التي ينبغي أن نهتم بها، فننفق في سبيله المال والوقت ونسعى إليه ونبذل في سبيل تحصيله غاية الجهد، فالأمم المتعلّمة تفوق الأمم الجاهلة قوّة وتملك أسباب الغلبة والقيادة، ونحن نريد أن نكون أمة غالبة لا مغلوبة، قائدة كريمة متبوعة لا تابعة ذليلة مَهينة. فالعلم إذن وسيلة نتخذها لبلوغ غاية نبيلة سامية، وهي غاية تنفع المسلمين وتُرضي الله. هذا على مستوى الأمة، أما على مستوى الأفراد فالمتعلم خير من الجاهل حياة وأوفر حظاً في النجاح، والنجاح والحياة الطيبة يطلبهما كل عاقل.
لكن انظروا بعين الحقّ والانصاف: أَيُقبِل أبناؤنا على العلم حقيقة، وهل العلم هو المقصد الذي نقصده في المدارس والجامعات؟ الجواب يدركه كل ذي لبّ وعينين: لا؛ إنما يبحث أبناؤنا عن النجاح في المدارس ويسعون إلى الشهادات. إنها حقيقة محزنة بالفعل، فقد زهد الناس في العلم وسعوا وراء الشهادة، فصرنا نمنح في كل عام ملايين الطلاب والطالبات – في بلاد المسلمين- شهادات نشهد لهم فيها بإتمام المدرسة أو الجامعة بنجاح، ثم نجد أننا لم نحصل إلا على عشرة علماء أو عشرين. عشرة أوعشرون سعوا وراء العلم واجتهدوا في تحصيله، وسائر الملايين حملة أوراق ملونة في كل منها اسم وتوقيع، تصلح أن يُؤطرها صاحبُها في إطار ويعلقها على الجدار، فتثبت أنه خريج جامعة لكنها لا تثبت أنه أعلم من حدّاد أو نجّار!
هذا هو الهدف الذي يسعى أكثر الناس إليه: شهادات تعلّق على الحيطان! ومع ذلك فإن المشكلة الكبرى ليس هنا محلها، وإن تكن هذه مشكلة كبيرة من شأنها أن تُقلق كل التربويين العقلاء في بلداننا.
المشكلة هي أنّ الناس مستعدون – في سبيل الحصول على هذه الشهادات- إلى التضحية بكل شيء. بالمال فيبذل الواحد منهم ربع دخله أو ثلثه أو نصفه ليدفع نفقات المدارس.. لا بأس.
والوقت: فينفق كل يوم ساعات في توصيل الصبيان والبنات كل إلى مدرسته والعودة بهم، وهم ينفقون نصف أعمارهم على مقاعد الدرس أو في حلّ الواجبات.. لا بأس.
وبراءة الطفولة: فيحمل بعض الآباء، أو أكثرهم، المسألة على أقصى محامل الجِدّ ويستهلكون طفولة الصغار وبراءتهم في سبيل التفوق والدرجات العالية.. لا بأس.
كل هذا من خاصة شأنهم؛ إن شاؤوا أنفقوا المال وبذلوا الجهد وصرفوا الوقت، وإن شاؤوا ذبحوا طفولة صغارهم على مذابح الدراسة والتفوق. ليصنعوا ذلك كلّه أو بعضه، أما أن تكون التضحية بالدين في سبيل الشهادات المدرسية والتفوق في المدارس فلا، لا وألف لا.
لقد عشت ما يكفي من السنين لأرى الهزائم تصيبنا واحدة في إثر واحدة؛ في بعض بلادنا "التقدمية" فرضوا على الطلاب والطالبات دروساً في الكفر الحزبي وفرضوا عليهم المشاركة في معسكرات يشترك فيها الطلاب والطالبات، يخرج الشبّان من بيوتهم إلى هذه المعسكرات والشابات فينقطعون فيها الأيام المتتالية، ينامون معاً ويقومون معاً ويأكلون معاً ويشربون معاً ويعيشون معاً.. وكان المتوقع أن يقول الآباء كلهم: "لا، لن نرسل بناتنا إلى مثل هذه المعسكرات يخالطن الشبّان ويشرف عليهن الرجال"، ولو فعلوا لتراجعت السلطة التي فرضت هذا النظام، ولكن أحداً لم يفعل، كلهم أرسلوا بناتهم، ورضي كل منهم أن يصدر عن بنته من الأفعال ما كان آباؤهم يذبحون البنت لو صنعت عُشر معشاره، يوم كانت النخوة وكان الشرف من أركان الحياة.. وهُزمنا في المعركة!
وفي بلد آخر، في أوروبا هذه المرة، أصدرت السلطات قانوناً يمنع الطالبات المسلمات من الدخول إلى المدارس بالحجاب. وكان المتوقع أن يثور الناس ويخرجوا إلى الطرق بالمظاهرات والاحتجاجات. أليس التعبير عن الرأي بهذه الطريقة مقبولاً في تلك البلاد؟ فإن لم يُستجب لهم فقد كان المتوقع أن يُضرب الآباء عن إرسال بناتهم إلى المدارس، فأي مؤمن عاقل لن يختار لبنته النجاح في المدرسة والرسوب في الآخرة. لكن الذي حصل أن مئة ألف طالبة مسلمة توجهن إلى مدارسهن في اليوم التالي، ثم توقفت كل واحدة منهن أمام باب مدرستها فنزعت حجابها وطوته ووضعته في حقيبتها، وعبرت باب المدرسة... وهُزمنا في المعركة!
وها هي اليوم معركة جديدة خسرناها قبل أن تبدأ: "المدارس العالمية" التي غزت ديارنا واخترقت حياتنا كما تخترق السكين قالباً من الزبدة! ثم لم يرتفع صوت بشكوى ولا صيحة بإنذار. حتى العلماء نيام لا يدركون حجم الكارثة التي توشك أن تنزل بنا حين ينتشر في الأمة مئات الآلاف من خريجيّ هذه المدارس، يحملون فكر الغرب في رؤوسهم، ومحبّة الغرب في قلوبهم، وقيم الغرب في نفوسهم، ولغة الغرب على ألسنتهم، ثم يصبحون هم المديرين الكبار في الشركات، والمتنفذين في الدوائر والوزارات، ويقودون الأمة إلى أحلك الظلمات!
يا أيها المؤمنون، إننا اليوم في حرب نبقى فيها أو نموت، ما هي بمعركة عابرة فتقيسوها على مئات المعارك التي هُزمنا فيها في الأيام الغابرة ثم بقينا وعُدنا إلى الحياة.
إنها حرب على لغتنا العربية التي صارت لغة ثانوية لطلبة هذه المدارس والإنكليزية هي اللغة الأم.
وعلى تاريخنا، لأن المناهج التي استوردوها لهذه المدارس من أقوام غيرنا جاءت معها بتاريخ أولئك القوم لا بتاريخنا، وحين درّست تاريخنا درسته مشوهاً مخلوطاً فيه الحقّ بالباطل والحابل بالنابل.
وعلى ديننا، لأنها خصصت لمواد الدين أقل القليل من الوقت وأقل القليل من الاهتمام، وربما جاءت بالمعلم الجاهل أو المتحامل ليُلقي دروس الدين على الطلاب.
وعلى أخلاقنا، لأنها سمحت بين جدرانها بتكشف البنات واختلاط الذكور بالإناث، طلاباً وطالبات أو معلمين ومعلمات.
وعلى قيمنا، لأن المناهج التي استوردتها من غيرنا بُنيت على قيمٍ ليست لنا ولا منا ولا تتفق مع شرعنا ولا تناسب سلائقنا.
وعلى مستقبلنا، لأنها تزرع في قلوب طلابها حب أعدائنا، فيفتحون لهم اليوم قلوبهم، ثم يفتحون لهم في غد أبواب بلادنا.
ولسوف يجادل قوم ويبحثون عن العلل التي تدفعهم إلى إلحاق أولادهم بهذه المدارس، فيقولون:
نريد أن يتعلّم أبناؤنا اللغة الإنكليزية لأنها لغة العصر.
وأنا أقول لهم: اللغة الإنكليزية مهمة فعلاً ويجب على كل واحد منا أن يتعلّمها ويُتقنها، وهي لغة العصر – كما تقولون- ولغة العلم والتجارة والاتصالات، لكن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة ديننا وحضارتنا، فإن تكن الإنكليزية هي لغة النجاة في الدنيا فإن العربية هي لغة النجاة في الآخرة.
هذه الأولى، والثانية أن اللغة العربية من أصعب اللغات وتعلّمها من أشقّ المهمات، وإنا ليحسدنا ملايين المسلمين الذين يعجزون عن تعلمها على شدة رغبتهم في تعلمها، ونزهد نحن فيها وقد أهديت لنا بلا ثمن ولا عناء. أما اللغة الإنكليزية فيستطيع أي واحد من الناس أن يتعلمها وينطقها كأهلها في ستة شهور. لا أقول هذا زعماً لا دليل عليه بل هي تجربة عشتها وأضمن نتائجها بإذن الله، فأنا كنت في المدرسة مقصّراً في هذه اللغة ضعيفاً فيها، فلما صرت في أواخر المرحلة الإعدادية درست في معهد اللغة الأمريكية سنتين (غير متفرّغ، خمس ساعات في الأسبوع فحسب)، فصرت أقرأ وأكتب وأنطق هذه اللغة قريباً مما يصنع أهلها. وأذكر أني حين تقدّمت لامتحان اللغة في كلية الهندسة، وكان إلزامياً، أنني أنهيته في ثلث ساعة وحصلت فيه على العلامة الكاملة أو نحوها. كل ذلك وما أنفقت في تعلم الإنكليزية غير ساعات معدودات خلال بضعة عشر شهراً، ولو كانت العربية هي اللغة التي أسعى إلى تعلمها لأنفقت عمراً بطوله أو نصف عمر، ولا أكاد أبلغ فيها – مع ذلك – مبلغ الكمال أو الإتقان.
وقد يقولون: نحن نريد تعليماً أفضل، وهذه المدارس أفضل تعليماً من المدارس التقليدية. وهذه حجة لا دليل عليها، فالمدارس فيها الجيد وفيها الوسط وفيها الضعيف، بغض النظر عن نوعها. أنت لا تقول مثلاً إن المصريين أفضل من الباكستانيين لأنك عرفت باكستانياً فاشلاً ومصرياً متميّزاً، فالباكستانيون فيهم عباقرة متميزون وفيهم علماء كبار وفيهم أذكياء أكفياء، كما أن فيهم هملاً لا قيمة لهم من الرعاع والجهّال، تماماً كما في المصريين وغيرهم من العرب أو من العجم. هذا هو الأسلوب الصحيح في النظر إلى الأمور: عامة الناس رزقوا إمكانات واستعدادات متشابهة أو متقاربة، ثم يتفاوتون بمقدار الجهد الذي يبذلونه والاجتهاد الذي يجتهدونه. وكذلك المدارس: لا عبرة في البناء ولا في المنهاج، العبرة في المعلمين والتعليم، فحيثما وجدت معلمين ممتازين متميزين فثمّ تعليم جيد، وحيثما وجدت العكس فالتعليم سيء، سواء أكانت المدرسة حكومية أم أهلية أم إسلامية أم عالمية.
وقد تجد بعض من تعرفهم من هؤلاء المتحيّزين للمدارس العالمية لا يدفعهم إلى إرسال أولادهم إليها إلا السمعة، يريدون أن يقال إن أولادهم درسوا ف هذه المدارس (الراقية) وتخرجوا فيها! مع أن في المدارس الأهلية والإسلامية ما يفوق كثيراً منها فخامة وسمعة وطيب ذكر بين الناس، وما يمكن أن يفاخربه المتفاخرون (لو صحّ أن يكون هذا من مقاصد الذهاب إلى المدارس أصلاً).
فيا أيها المسلمون، لا تخدعنّكم أوهام لا حقيقة لها، ولا تبيعوا دينكم ودين أولادكم بالدنيا وما فيها، وأَخرِجوا من هذه المدارس أولادكم اليوم قبل الغد، فإنهم ليجري في عروقهم مزيد من السم في كل يوم.
هذه نصيحتي، فمن يأخذ بها فأرجو له النّجاء، ومن أعرض فلا أقول له إلا مقالة مؤمن آل فرعون: (فستذكرون ما أقول لكم وأفوّض أمري إلى الله).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن