هكذا هي الدنيا!
كما تتناثر أوراق الخريف تتناثر أوراق التقويم هنا وهناك، تحمل معها خلايا العمر، وكلمات الأفكار، ومشاعر الإنسان..
يوماً من الأيّام كانت تنمو وتكبر كانت تحلم وتطمح كانت تعيش اللذّة، وتعاني الألم.. كانت تعيش الرغبة، وتقتحم ميادين العمل..
واليوم وقفت عند حدِّها، توقّفت أحلامها، تبدَّد طموحها.. بل تحوَّل من هنا الصغيرة الضيّقة.. إلى هناك الواسعة الفسيحة.. إلى الفضاء الرحب.. إلى عالم الغيب..
ما أكثر الذين يتحسّرون على الشباب، ويندبون أيّامه؟! ولكنّني بحمد الله تعالى يتملّكني شعور عارم أنّ نعمة الشيخوخة في طاعة الله مع ما فيها من الضعف والعلل، لا تقلّ عن نعمة الشباب في طاعة الله.. ففيم تشتدّ حسرة كثير من الناس على الشباب الذاهب، وتباكيهم على أيّامه الخوالي؟!
ولست مع أبي العتاهية في قوله:
أيــــا مَن يــــــؤمِّـــــل طــــــولَ البقاء
وطـــــولُ البقـــاء عليــــه ضــــرَرْ
إذا مـــــا كبرتَ وفـــــاتَ الشبابُ
فـــلا خير في العيـــش بعـــد الكِبَرْ
إنّه منطق دنيويٌّ مادّي، يؤسِّس للسلبيّة ويدمِّر النفْس، فخيرُكم مَن طالَ عمُرُهُ وحَسُنَ عملُهُ، كما جاء في الحديث، وللحياة في الكبَرِ متعة ومباهج لا يعرفها الشباب..
إنَّ المشكلة دائماً في الإنسان ومشاعره.. إنّه يشكو ويتذمَّر دائماً مِن حاضِرِه، ويهرُب مِن يومه لأمْسِه، ومِن غدِهِ لأمْسِه.. فمتى يعيش لحظته الحاضرة بالعمل والأمل، والنظر الإيجابيّ إلى المستقبل..
تناثُرُ أوراق التقويم يحمل معه ذكريات جميلة، وأخرى مؤلمة.. فهل نستطيع تحويل الذكريات كلّها إلى ذكريات جميلة؟
نعم! نستطيع ذلك إذا وضعنا في حياتنا «معادل الاحتساب الإيمانيّ».. العمل لله.. الصبر لله.. التعلُّق بالله.. ابتغاء الأجر من الله.. الاستعداد للآخرة..
مشاعر الرحيل مؤلمة! محزنة.. موحشة.. يخفق لها القلب، وتدمع لها العين.. ولكنّها عندما تكون من آلام وأحزان.. من سجن ضيّق.. من حرمان طال أمده.. إلى حبيب طال الشوق إليه.. إلى عالم فسيح، حيث لا ظلم ولا ضرر، ولا همّ ولا كدر.
عندها يكون الرحيل حبيباً.. عندها يقول الراحل: واطرباه! غداً ألقى الأحبّه.. محمّداً وصَحبه..
ما بين الطفولة والشيخوخة تتنامى مشاعر الرحيل وتتقاصر، وتغيب وتحضر، وتتباين المشاعر منها والمواقف.. وأكثرها مشاعر المقت والنفور..! ويُفتَن الناس بالناس، وتختلط الأوراق، وتضيع المبادئ.. وكلُّ الناس يغدو ويروح: «فبائعٌ نفسَه، فمُعتِقُها أو مُوبِقُها»، كما يقول نبيّنا المصطفى[.
وفي لحظات استثنائيّة من نزول البلاء والضيق قد يتمنّى الإنسان الرحيل، لا حُبّاً به، ولكن كرهاً بواقعه، أو يُقدِم عليه بنفسه واختياره، ولا يعلم أنّه يحلُّ مشكلته بما هو أكبر منها وأخطر، وهدي النبوّة يقول له: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّياً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّني إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي».
أيّها الإنسان! أما علمت أنّ من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.. فلماذا تبغض الرحيل وتأباه.. وتهرب منه وهو لاقيك؟! وأنت تعلم أنّ رحلة البداية لها نهاية، وأنّ إحدى رجليك في الدنيا، والأخرى في القبر، وأنّ حياتك كلّها منحة من الله وابتلاء.. وأن ليس بعد هذه الدار إلاّ الجنّة أو النار..
شتّان بين راحل وراحل: راحل يساق إلى ربّه كما يساق المجرمون: (يُعرف المجرمون بسيماهم، فيؤخذ بالنواصي والأقدام)..
وراحل يُزَفّ كما تُزَفّ العروس، بالحبّ والتكريم، وبشريات النعيم: (ألاّ تخافوا، ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).
أيّها الإنسان! أنت سيّد المخلوقات.. الكون كلّه يغبطك على مكانتك إلاّ الشيطان، فإنّه عدوّك الأوّل الأخطر.. فلا تجعله يستحوذ عليك ويخزيك.. ولا تجعل للشيطان عليك سبيلاً، فترحل معه إلى الجحيم..
تحرّر أيّها الإنسان من عالم الطين وأثقاله، تحرّر من وحشة الأرض.. وأحسن ظنّك بالله.. وانظر هناك إلى عالم الغيب.. فالــــرحـــــمة الكــــــــبرى تنتظرك، فأقبل إلى مولاك ولا تتردّد..
أنِّب نفسك على توالي الغفَلات، وتراكم الزلاّت، وابرأ مِن حَولك وطَولك وقوَّتك، واعلم أن لا ملجأ لك من الله إلاّ إليه، فاطّرح ببابه، وتذلّل بين يديه، واذرف في خلواتك دمع الخوف والندم، والحبّ والشوق، واعلم أنّ ذلك كلّه مفتاح التوفيق والرضا، وباب القبول عند عالم السرّ والنجوى..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة