الصيام الحقيقي
كتب بواسطة د. محمد راتب النابلسي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
5086 مشاهدة
بعد أيام عدَّة يطلّ علينا شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، شهر الطاعة والإحسان، شهر الذِّكر والحُب، شهر التقوى والقرب، فينبغي للمرء في رمضان وفي غيره أن يخرج من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، ومن مدافعة التدني إلى متابعة الترقي.
الإسلام دين الله الذي ارتضاه لعباده، والمنهج القويم الذي اختاره الله لخَلقه، وتطبيق هذا المنهج عن إيمان وإخلاص هو جوهر العبادة التي هي علة وجودنا، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
ومن العبادات ما هو تعاملي تقوم أصوله على حسن العلاقة مع الخَلق، أمَّا العبادات الشعائرية كالصلاة والصوم والحج فتقوم أصولها على حسن العلاقة مع الله عزَّ وَجَلَّ إقبالاً واتصالاً واستنارة وطمأنينة.
لا تقطف ثمار العبادات الشعائرية _ ومنها الصيام _ إن لم تصح العبادات التعاملية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) البخاري.
ولقد لخَّصتِ الآية الكريمة شطري الدِّين فقال تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام: (وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ)حُسن العلاقة مع الحق (والزَّكَاةِ) حسن العلاقة مع الخَلق.
المؤمن بالله يُقبل على امتثال أمره، لأنه أمر من خالقه وكفى، أمَّا الذي يعلِّق تطبيق الأمر على فهم حكمته ورؤية ثمرته فهو لا يعبد الله ولكن يعبد ذاته. هذه اللفتة من أجل أن يرتقي صيامنا من سلوك ذكي إلى عبادة خالصة، يقول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام ) لقد جرت سنَّة الله في خطابه أن يخاطب الناس جميعاً بأصول الدِّين، بينما يخاطب المؤمنين _ الذين آمنوا بوجوده ووحدانيته _ بفروع الدِّين؛ كالأمر، والنهي، والحلال، والحرام.
الصيام إمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر حتى الغروب بنية العبادة والطاعة، ولأن هذا النهي عن شهوات مباحة وفق منهج الله عزَّ وجلَّ؛ ورد في الحديث القدسي: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) متفق عليه.
أمَّا قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تشير هذه الآية إلى أنَّ مبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فهو ركن تعبدي موجود في الديانات السماوية السابقة للإسلام. وقوله تعالى:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لعلكم تدَعون المعاصي وتلزَمون الطاعات، فليس القصد أن ننتصر على أنفسنا في رمضان ثم نتخاذل أمامها بقية العام، ولكنَّ الصيام الحقيقي أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران وتقلبات الزمان والمكان، ليس القصد أن نضبط ألسنتنا في رمضان ثم نطلقها بعد رمضان، ولكنَّ الصيام الحقيقي أن تستقيم منّا الألسنة وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان.
ليس القصد أنْ نغض أبصارنا وأن نضبط شهواتنا في رمضان، ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان، إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ولكن الصيام الحقيقي أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان حتى نلقى الواحد الديان.
ليس القصد أن نتحرى الحلال ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان، ولكنَّ الصيام الحقيقي أن يكون الورع مبدأً ثابتاً وسلوكاً مستمراً في حياتنا.
ليس القصد أن نبتعد عن المجالس التي لا تُرضي الله إكراماً لشهر رمضان، ثم نعود إليها، وكأن الله ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام.
مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة حبسها أهلها، ثم أطلقوها، فلا تدري لا لما عقلت ولا لما أطلقت.
إنَّ الله تعالى لم يصطف ِ رمضان من بقية الشهور ليكون شهر الطاعة والقرب فحسب؛ بل أراده شهراً يتدرَّب فيه الإنسان على الطاعة، حتى يذوق حلاوة القرب، وعندها تنسحب هذه الطاعة وذاك القرب على كل شهور العام، فحينما يدَع الإنسان ما هو مباح امتثالاً لأمر الله؛ لا يستطيع ولا يتوازن مع نفسه أن يقترف ما هو محرم، فترك المحرمات أَولى من ترك المباحات.
ثم يقول الله تعالى: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) إنها أيام قليلة اصطفاها الله لتكون أيام طاعة وقرب، فلعل الطاعة والقرب تستغرق كل أيام العام، ثم يقول الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فهو جلَّ جلاله يعطي الرخصة عندما يكون التكليف فوق الوسع، وحينما يطيق المسلم الصيام مع السفر أو المرض فالأَولى أن يصوم، لقول الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )الشريعة رحمة كلها، فكل قضية خرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن المصلحة إلى المفسدة؛ فليست من الشريعة.
(وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكَمْ) الاهتداء إلى الله، والتزام منهجه، والوصول إليه، والتنعم بقربه ثمرة يانعة من ثمار الصيام، وهل من نعمة أجلُّ وأبقى من نعمة الهدى؟
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ولم يقل: إن سألك، لأن (إذا) في اللغة تفيد تحقق الوقوع، بينما (إن) تفيد احتمال الوقوع. ولو تأملتم في آيات القرآن مادة السؤال لوجدتم أن كل سؤال ورد في القرآن ورد في جوابها كلمة (قل) إلَّا في هذه الآية لم ترد كلمة (قل) بين السؤال والجواب، لذلك يقول العلماء: هي إشعار من الله لعباده المؤمنين بأنه ليس بين العبد وربه في سؤاله له ودعائه إياه وسيط، ليشعر المؤمن أن الله معه في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل حال، وأنه ما عليه إلا أن يدعوه مؤمناً ومخلصاً فيجيب دعوته. (وَلْيُؤْمِنُوْاْ بِي) تؤمن به وتستجيب لأمره فيجيب دعاءك. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) يرشدون إلى الدعاء المستجاب، أو إلى سعادة الدنيا والآخرة. وحظ المؤمن من الدعاء الإجابة أو التعبد.
أسأل الله تعالى أن يبلِّغنا رمضان، وأن يبارك لنا فيه، وأن يعتقنا من النار، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن