كاتب وصحفي وحقوقي جزائري وعضو البعثة العربية إلى سورية
الثورة السورية في ذاكرها الخامسة
من السهل إحصاء عمر الثورة السورية؛ فها هي 5 سنوات مضت على انطلاق شرارتها التي هتف فيها الشعب السوري بجميع أطيافه في مظاهرات سلمية "الشعب يريد إسقاط النظام" و"مالنا غيرك يا الله".. ولكنهم لم يتخيلوا للحظة أنهم سيواجهون كما وطنُهم هذا المصير المأساوي، وأنهم سيدفعون الثمن مئات الآلاف من الضحايا ما بين شهيد وأسير ومشرّد ومهجّر، وأن بلادهم ستدمّر بهذا الشكل الوحشي الذي لم يشهد التاريخ مثله...
والأمرّ من ذلك أنّه يبدو من الصعب التنبؤ بموعد لنهاية الأزمة الراهنة في سورية، حيث تدور رَحى حرب عالمية ثالثة على أرضها تشارك فيها كل جنسيات العالم لا رحمة فيها لا لبشر ولا لحجر..
وحول واقع الثورة السورية ومستقبلها في الأفق المنظور؛ كان لنا لقاء مع الكاتب والصحفي والحقوقي الجزائري وعضو البعثة العربية إلى سورية: د. أنور مالك...
1. (إشراقات): هل ما زالت في الشعب السوري طاقة للاستمرار؟
- الشعب السوري ذاق ويلات القتل والتهجير والتعذيب على مدار خمس سنوات، ورغم ذلك مازال يقاوم بالسلاح وكل ما يملك، فمن بقي داخل سورية ليس له خيار آخر سوى مقاومة وإرهاب النظام إرهاب المليشيات، وهي متعطشة للدماء بسبب حقد زرع فيها على مدار سنوات طويلة من الشحن. أما من لجأ إلى الخارج فبدوره ليس بيده شيء يمكن أن يفعله أمام مصاعب الحياة سوى الاستمرار بقدر الممكن في دعم ثورته، والعمل من أجل تحقيق العدالة للضحايا الذين تجاوز عددهم نصف مليون، فضلاً عن الجرحى والمعذَّبين والمفقودين.
لا توجد عائلة في سورية لم تتضرّر سواء بفقدان أحد أفرادها أو ضياع ممتلكاتها، وما يراه السوريون من ظلم لعدالة قضيتهم مازال يشحنهم بطاقة على الاستمرار حتى تحقيق ما يمكن تحقيقه من مقاصد ثورتهم.
بلا أدنى شك أن هذا الشعب أرهقته رائحة الدماء والقنابل والبراميل المتفجرة والصواريخ والغازات السامّة، ولكن طاقته تتجدد مع مُضيّ الأيام، فيكفي أن جيش الأسد عجز عن القضاء على الثورة لمّا كانت مجرد مظاهرات سلمية، واضطُرّ لجلب مرتزقة وميليشيات كي تحِميَه! ولمّا فشلت لم يجد أمامه سوى الاستنجاد بروسيا التي ركضت لاحتلال بلاد الشام ومواصلة القصف على الطريقة الأسدية أو ربما بوحشية أكبر.
لقد راهن المجتمع الدولي على عامل الزمن حتى يتعب الشعب السوري، ويخضع لما يُملَى عليه من حلول تحافظ على مصالح دَوْلية معروفة في سورية والمنطقة، وكان رهانه وضعَ حدٍّ زمني بأنْ لن يتجاوز 2013م غير أن ذلك لم يحدث، ونحن في عام 2016م والثورة السورية مستمرة.
2. (إشراقات): باعتقادك: ما أبرز أسباب (تأخُّر انتصار الثورة السورية)، مع كل ما بُذل من تضحيات؟
- في اعتقادي أن الثورة الأولى التي كانت ضد نظام بشار الأسد قد انتصرت، حيث نجحت في تحويل النظام إلى مجرد عصابات والرئيس "مختار حارة" كما يسميه السوريون، وإن كانت بلا شك لم تصل للهدف المنشود مثل غيرها من الثورات في استعادة الدولة والحفاظ على كيان البلد.
غير أن الثورة الثانية ضد المحتلين هي التي مازالت مشتعلة، فالبلد تحتله إيران بميلشياتها، وأيضاً تنظيمات متشددة محسوبة على المعارضة وللأسف خدمت طهران كثيراً، وأيضاً الاحتلال الروسي كان واضحاً، من خلال الوجود العسكري الكبير السابق لجيش روسيا، وهو من قام بالعمليات الجوية ضد القرى والمدن السورية.
ومن أبرز المشاكل التي عانت منها ثورة سورية هي تشتت الجهود عبر جماعات وكتائب وفصائل مقاتلة، وصلت لحد التناحر فيما بينها. كما توجهت بعض الفصائل القوية نحو التـطرف.
أيضاً الدعم المادي للثوار لعب دوراً قذراً في بعض الأحيان، فالذين يدعمونها ركزوا على تنظيمات ذات توجهات معينة، وأَقْصت أخرى للأسف الشديد، حتى صارت بعض الفصائل تعمل لصالح من يدعمها وليس لصالح الثورة.
طبعاً بعد حكمة الله تعالى وإرادته، توجد هناك الكثير من الأسباب التي أخرت النصر الكامل للثورة السورية، وهذا طبيعي بالنسبة لثورة كانت هي الوحيدة التي رافقتها ثورة دولية مضادة منذ بدايتها.
3. (إشراقات): من الواضح أن الدول الكبرى متفقة على تدمير سورية وتفريغها من أهلها، كل دولة بحسب مصلحتها: ما قراءتك لهذا الواقع؟ وهل ترى له من علاقة بالوجود الصهيوني في المنطقة؟
- في نظري أن المجتمع الدولي لم يتفق على تدمير سورية كما ورد في سؤالكم، بل الاتفاق على تدمير الثورة ولو أدى ذلك إلى تدمير البلد، وهذا تماهى مع منطق النظام السوري الذي رفع شعار "الأسد أو نحرق البلد"، والسبب واضح ولا يحتاج إلى تخمينات كثيرة، ألا وهو الكيان الصهيوني، فقد تحقق لما يسمى "إسرائيل" أمنها على مدار أربعين عاماً من حكم الأسد. وأعتقد أنه لا توجد جبهة تعيش في بُحبوحة أمنية على ما يقارب نصف قرن مثل جبهة الجولان.
الثورة السورية منذ اندلاعها والكيان العبري تحت الطاولة في كل شيء بل هو صاحب القرار الدولي الفعلي، ويجب أن ننتبه لأمر هام أن دول الطوق مع الكيان الصهيوني لا يمكن أن تكون صناعة القرار فيها لشعوبها، فالديمقراطية على المقاس، والثورات تسير وفق أهواء حكام تل أبيب، وأي ثورة تخرج عن أهوائهم فسيكون مصيرها الاحتلال الأجنبي كما يجري في سورية.
لذلك عملية إنقاذ نظام الأسد دعمتها "إسرائيل" والوجود الإيراني ثم الروسي كان بمباركة أمريكية، وطبعاً نعرف أن الولايات المتحدة تخضع للوبي اليهودي ومن يقول غير ذلك فهو واهم بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
4. (إشراقات): ما قراءتك لقرار دخول تركيا والسعودية الحرب براً: التوقيت والأهداف والمآلات؟
- هناك عدة أمور يجب أن نتحدث عنها فيما يخص سؤالكم:
• الأمر الأول: لهذه اللحظة لم يتم دخول بري تركي سعودي، وإن كانت تصريحات وزير خارجية المملكة العربية السعودية (عادل الجبير) حول تخيير الأسد بين الرحيل سياسياً أو عسكرياً، توحي بأن السعودية وحلفاءها عازمون على خيارات أخرى، ونحن نعرف أن دبلوماسية المملكة هادئة وليست متسرعة ولا تقول شيئاً للاستهلاك الإعلامي.
• الأمر الثاني والمهم: أنه توجد بعض الحيثيات في المشهد السوري موجودة في ذهن المجتمع الدولي الذي يتابع المستنقع السوري، وقد حدثني بها عدد من الخبراء والمسؤولين الغربيين خاصة، وهي:
- الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية المعروف اختصاراً بـ "داعش" لا يمكن أن تؤتي ثمارها إن لم ترافقها حرب برية، وأعتقد أن أمريكا وروسيا وغيرهما لا يمكن أن يغامروا بالدخول في حرب برية ستكون حربَ استنزافٍ وطويلة المدى.
- الاستهداف لن يقتصر على جبهة النصرة و "داعش" بل سيطال فصائل إسلامية أخرى لا تنتمي للبغدادي ولا الظواهري، ولكنها قد توصَفُ بأنها متشددة، وأنا أدرك أن المجتمع الدولي سيحاربها إن لم تخضع إلى ما تريده روسيا وأمريكا. وهذه التنظيمات بدورها تحتاج إلى حرب برية أيضاً.
• الأمر الثالث: أن التنظيمات المتطرفة في سورية خاصة "داعش" تهدد أمن المملكة العربية السعودية، ومن مصلحة الأمن القومي السعودي محاربته في عُقر داره، وليس فقط بمطاردة خلاياه الزئبقية المتمددة في كل العالم.
• الأمر الرابع: أن الحليف الثاني والمهم للسعودية: تركيا تعمل على حماية أمنها القومي سواء ضد تنظيم "داعش" أو الميليشيات الأخرى الكردية. وكل ذلك يحتاج إلى حرب برية، وهذا يقتضي التدخل العسكري في سورية.
• الأمر الخامس: أنه من غير حرب برية تستهدف معاقل هذه التنظيمات التي قويت شوكتها في سورية لا يمكن إيجاد مخرج للأزمة السورية، كما أن الأمن القومي التركي والسعودي سيكون مهدَّداً ومستهدفاً أيضاً.
أعتقد أنه مما ذَكرته سابقاً فإن التدخل العسكري في سورية صار مُلحّاً جداً، والخلاف القائم بين محور تركيا/السعودية مع المجتمع الدولي يتعلق بالميليشيات الشيعية التي تقاتل بها إيران في سورية، وأيضاً الميليشيات الكردية بالنسبة لتركية.
طبعاً بالنسبة للتوقيت فهو مهم؛ فمخاطر سورية على المنطقة بلغت ذروتها، ولم يعد هناك صبر بالنسبة لتركيا والسعودية خاصة، ولذلك وجب إيجاد حل سريع في ظرف تبنّت فيه الولايات المتحدة وروسيا خيارات الحل السياسي، ولكن مادام نظام الأسد قائماً فلا يمكن إيجاد أي مخرج للأزمة المتفاقمة التي تُعتبر (فضيحة حقوق الإنسان) في العصر الحديث.
أما عن المآلات ففي حال التدخل، أعتقد أن تركيا والسعودية لا يمكن أن تغامرا بحرب أحادية ستكون مستنزِفة لهما، ولكن إنْ حدثت ستكون في إطار التحالف الإسلامي على الأقل، وبدعم من أمريكا وقوى أخرى، فالقضية كبيرة وخطيرة جداً.
في تقديري أعتقد أن الأمر مازال في مرحلة ورقة ضغط تُستَعمل ضد الأسد، وفي حال عدم رضوخه فتوجد خيارات أخرى منها تزويد المعارضة بسلاح مضاد للطيران، وهذا سيقلب المعادلة ضد روسيا التي غرقت في مستنقع سورية وتبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه.
طبعاً لا نملك كل المعطيات الأمنية والاستخباراتية والسياسية فتحليلاتنا مبنية على ما نسمع ونرى ومن خلال بعض المعلومات التي تصلنا، وتبقى الحقيقة لدى صُنّاع القرار.
5. (إشراقات): هل استطاعت أطياف المعارضة الالتقاء على أهداف مشتركة؟ وهل تمكنت من صياغة رؤية سياسية واضحة؟
- لا يمكن أن نعتبر المعارضة السورية لم تلتق على أهداف مشتركة، ولكن ليس لدرجة كبيرة من الاتفاق، فالخلافات موجودة وقوية في بعض المحطات من عمر الثورة.
كما أن مخابرات الأسد نجحت لحدّ ما في اختراق المعارضين، حيث تمكنت من شراء ذمم عدد منهم، وشخصياً اطلعت على أرشيف فرع الأمن الخارجي خلال 2011 و2012م، ووجدت العجب العجاب، حيث إن المعارضين الذين يتعاونون مع النظام كانت مهمتهم هي إفشال وحدة المعارضة على أهداف مشتركة، وإظهارها أمام المجتمع الدولي بأنها ممزقة، وغير قادرة على أن تقدم البديل للنظام القائم.
خاصة أنه في تلك الفترة كان المجتمع الدولي وجامعة الدول العربية يُدندنون بالمطالبة بوجود كيان موحَّد للمعارضة، ولو حدث ذلك ربما ما وصل حال سورية لهذه الدرجة من الدمار والحرب النجسة.
طبعاً تحميل (المعارضة) المسؤوليةَ هو ظلم حقيقي لها، فالمجتمع الدولي لم يكن له أيّ استعداد لدعم حقيقي للثورة، وأيضاً دخول فصائل تحت خطابات جديدة تتماهى مع تنظيمات مدرجة في قوائم الإرهاب الدولي، وضع المعارضة في مواقف محرجة لها داخلياً وخارجياً.
الدولة السورية متفككة الآن ولذلك لا يمكن أن نراهن على وجود معارضة واحدة في ظل تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين على الحلبة السورية، وهذا بحد ذاته من العوامل التي أسهمت في إعاقة وصول أطياف المعارضة لوضع أهداف مشتركة ورؤية سياسية واضحة وناضجة.
6. (إشراقات): هل تعتقد أن المفاوضات ستأتي بنتائج ترتقي إلى مستوى طموحات الشعب السوري؟
- خضتُ تجربة بعثة مراقبي الجامعة العربية في العام الأول من عمر الثورة السورية، وكان من الممكن جداً تجاوز الأزمة بسهولة تامة، والبلد تحت سيطرة النظام حينها، والمؤشرات التي جمعناها في ذلك الوقت تؤكد أن ما يحدث يمكن حلحلته وإنقاذ البلاد مما وصلتْ إليه الآن.
لكن للأسف الشديد النظام كان حينها يتحرك بعقلية أمنية بحتة، وكان ينظر للآخر من الشعب السوري بنظرة عدائية مطبوعة بالطائفية في كثير من الأحيان.
النظام أوصل البلد إلى الخراب والدمار من أجل أن يبقى في منصبه، رئيس فشل في إدارة الأزمة، وكان بوسعه أن يحتويها في بدايتها وينقذ بلاده من الدماء والحرب النجسة، لهذا لا أعتقد أنه سيلتزم بأي خيار يكون في صالح طموحات الشعب السوري.
طموحات الشعب التي كانت في الإصلاحات ثم رحيل النظام وتحولت إلى مقاومة مسلحة للغزاة والبغاة والغلاة والطغاة، للأسف وقفت ضدها قوى كبرى أرادت لسورية هذا المآل.
لذلك إما أنّ سورية مقبلة على التقسيم أو الحسم العسكري أو استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى ويبقى عامل الوقت هو الفيصل، أو الغرق في متاهات أخرى تتعلق بـ (الحرب على ما يسمى الإرهاب).
أما المفاوضات تحت القصف والتهجير والخطف فلا يمكن أن تؤتي أكلها، ومن يرعى المفاوضات هي روسيا التي تقاتل في صف الأسد، وأمريكا التي منعت السلاح عن الشعب ليحمي نفسه، ولم تبادر إلى الضغط الحقيقي على النظام وإيران لإيجاد مخرج عاجل لأقذر أزمة إنسانية في العصر الحديث.
طبيعي في كل الحروب أن تنتهي بمفاوضات بين المتحاربين، ولكن مشكلة سورية أن الذين يتصارعون في الداخل تحولوا إلى أدوات لصراعات أخرى بين قوى كبرى، وهذا بحد ذاته سيجعل الحلول السياسية في مهب الريح، إن لم تكن هناك جدية لدى الأمم المتحدة وبقرارات صارمة من مجلس الأمن.
أزمة سورية ستطول والحل لن يكون اليوم أو غداً، وكل المؤشرات توحي أن جولات "لافروف -كيري" لا تختلف عن "سايكس - بيكو"! وتبقى الأيام حُبلى بالمفاجآت.
***
ختاماً نقول، لا شك في أن المخاض الثوري الذي تشهده سورية عسير كانت دماؤه خيرة شبابها.. ولا بدّ من ولادة قريبة بإذن الله ستشرق معالمها: حرية .. كرامة.. عزة.. إباء.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة