طالبة دكتوراة في جامعة هايدلبرغ
انتشرت في الآونة الأخيرة هذه النظرية بين الناس ولا أدري إن كانت يوماً ما ستضاف كفقرة إلى قانون المساواة في هيئة الأمم المتحدة، وإثبات هذه النظرية ربما سيغدو أصعب من إثبات نظرية النسبية التي حيّرت العلماء.
وأخشى من أن تصبح من مادة الثقافة العامة وتدرس في المدارس ليكبر التلاميذ ويصبح كل شيء لهم في الحياة المتطور والمتخلف تنطبق عليه نظرية (الحال من بعضه)، وبالتالي تفقد الدرر قيمتها لأنها يجب أن تحاكي هذه النظرية وأنت تقف جنباً إلى جنب مع حجارة الطريق.
تجد ذلك الجالس في إحدى مقاهي الشيشة ينفث دوائر الدخان تباعاً، غامزاً في عينه صبية تقابله وبأذنه الأخرى يسترق حديثاً جانبياً يغذي به عقله النعس، ومقلباً في ملل شاشة الهاتف، ويلمح عن بعد جاره مترجلاً من الحافلة يبدو عليه الإرهاق، يحمل حقيبته المتخمة بأوراق العمل ليتابعها في سهرته، فيوقفه، ويسلم عليه، يسحب له كرسياً فارغاً ليجلس الجار، يعتذر الآخر بأدب ويتحجج بالوقت والعمل وقلبه متعطش للقاء طفلته الصغيرة وأخذها بالأحضان، ولكن تجد جملة (الحال من بعضه يا رجل)، تخرج كالسدادة حتى لا يفتح للآخر مجال أن يظهر أنه مهم في مكانه .
لا يا عزيزي اسمح لي أن أدحض هذه النظرية وإن أثبتتها معاييرك النفسية لتشعر فيها بالرضا عن نفسك أمام من يجدّ ويتعب ليحصل على لقمة العيش الكريم أو ليصل إلى هدف سامٍ شق طريقه منذ سنوات، لقد قال الله في كتابه الحكيم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)، فحالك على طاولة الشيشة تطالع القاصي والداني وتقتل فيها الوقت ليس من حال من يعمل ويقضي يومه في مدّ وجزر سواء جالساً على مكتب، أو متعلقاً على السلالم يبني صرحاً، أو مسترسلاً على السبورة ينقش في عقول أبنائك علماً، وحالك المتكاسل الذي يستيقظ وقت الظهيرة لا يشبه بأي حال من اتخذ من خيوط الغسق دليلاً.
ومع انتشار تداول هذه الجملة المحبطة كانتشار النار في الهشيم تزيد من الشعور بالاضطهاد للفئة التي تبني نفسها وتنشئ من ذاتها قواماً صلباً، وبالمقابل تزيد من التجبر والخيلاء لأولئك الذين لفرضهم هذه النظرية يتساوون مع الجميع.
ولكن الرجال بطبيعتهم قد لا يحملون همّاً لهذه الجملة كما النساء، حيث تجد من تعمل جاهدة على إثبات كيانها وسط مجتمع أياً كان، وتجيد عدة لغات وتدير أعمالها وبيتها وعالمها وفي لقاء على فنجان قهوة مع أخرى لا يملأ تاريخ حياتها سوى (طق الحنك) تكنولوجياً وعملياً وفسحة الأسواق وزيارات المظاهر الكذابة، تسألها فيها الأخرى عن عدم رؤيتها لها منذ زمن، تبدأ لتنطق عن عمل أو إنجاز أو منصب، فتنظر الأخرى داخل حقيبتها متصنعة البحث عن منديل وتقول لها: "يا ستي والله الحال من بعضه".
اسمحي لي من هذا المقام يا مدام بأن تكوني شجاعة بالقدر الكافي لمواجهة نفسك وتثبتي كلامك ونظريتك "الحال من بعضه" كيفاً وكماً؟
هي تخرج باكراً تأخذ بيد أطفالها في زمهرير البرد أو حميم الصيف وأنت لم تنهِ حلمك السابع بعد، هي تجد من فسحة الفراغ بوابة لتجديد ثقافتها وبناء فكرها، وأنت تبنين من صفحات التواصل الاجتماعي حلبة من المساخر والمهازل والفتن، هي تركض بأطفالها من مدرسة إلى نادٍ إلى طبيب و.... وأجندتك اليومية حافلة بالزيارات والأمسيات وبالكاد تتابعين فيها أمور أطفالك المدرسية.. وهكذا ..
وبذلك يا مدام تكون الحال من بعضه لك مخرجاً تتساوين فيها مع بقية النساء.
صراحة نحن بحاجة ملحة في عصرنا هذا إلى دورات مكثفة في الثقافة الاجتماعية، مع أننا لو تأملنا قوله تعالى في الرسل ليس البشر الذي قد سمعناه مراراً وتكراراً لكن دون تأمل ولا تفكر: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ"، نجد التفاضل واضحاً.. درجات.. أي فروقات.. أي تنسخ كلياً نظرية "الحال من بعضه"، فحال سيدنا عيسى لم يكن كحال سيدنا سليمان ولا يشبه حال سيد الخلق محمد.. لاحظ أنهم في مرتبة رسل من رب السماوات.. وكذلك الحال بين أهل العلم، فحال العالم ليس كالجاهل، وحال النجار ليس كحال السباك، وحال المعلم ليس كحال الطبيب، وحال العابد ليس كحال الفاسق .
بالتالي يجب أن نتوقف أخلاقياً عن تداول هذه الجملة لأنها بقدر ما هي مُرضية لناطقها بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز لسامعها الذي يضطر أن يبتلعها متحلياً بالذوق وطولة البال ولسان حاله يقول: اللي بيدري بيدري .
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
طالبة دكتوراة في جامعة هايدلبرغ
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا