طالبة جامعية في كلية الطب | لبنان
نارٌ ومطر
في صباح يــومٍ ممطر عزمتُ على السَّيـر نحو مـكان عملـي تحت المطر، علَّ النَّار التي اشتعلت في صدري منذ البارحة تخبو قليلاً. أخذتُ أسترجع أحداث ذاك اليوم المأساوي الذي قُتل فيه معنى الخير في نظري. لم أستطع أن أُغيِّب عن مخيِّلتي وجه تلك العجوز التي كانت تبكي فلذة كبدها بحرقة.
التقيتُ بالجاني مرَّة، ويا ليتني لم ألتقِ به قطّ... لقد كان ذاك الرَّجل تجسيداً حيّاً للشرِّ، لم يُبدِ مرَّة واحدة أيَّ ندمٍ أو حسرة، بل كان يتحدَّث عن جريمته وكأنَّها بطولة يفتخر بها. لقد كان تحت تأثير المخدِّر، هذا كل ما دافع به عن نفسه. ولكن رغم هذا؛ فقد كانت ضحيَّته تستحقُّ الموت بِرأيه...
كانت المحكمة مكتظَّة بالنَّاس، وقد ساد جوٌّ من التشنُّج المَقيت... كانت المحكمة أشبه بساحة نزال، جلس أهل الضحيَّة من جهة، وجلس أهل الجاني من جهة. لم ينطق أيُّ أحدٍ من الفريقين بكلمة، بل اكتفوا بتبادل نظراتٍ أبلغ من الكلام بكثير. لم يكن أهل الضحيَّة وحدهم، بل اجتمع محبُّوه الكُثر خارج القاعة، ودعَوا اللهَ أن تتحقَّق العدالة لرجلٍ قلَّ نظيره فأحبّوه بصدق.
عندما أردْتُ أن أُدلي بشهادتي كأخصَّائيَّةٍ اجتماعيَّة عاينتِ الجاني وحلَّلت شخصيَّته، شعرْتُ بأنَّني أردُّ للقتيل بعضاً من حقِّه. أردتُ أن أصرخ في القاضي وهيئة المحلَّفين: "إيَّاكم أن تدَعوا هذا الوحش يجول في أحيائنا مجدَّداً، إنَّه إنسانٌ مختلٌّ اجتماعيّاً، لا يملك في نفسه أيَّ مفهوم للقيم، ولا يحمل في قلبه مثقال ذرَّةٍ من رحمة... إيَّاكم أن تتركوه بيننا، فمكانه السجن أو اللَّحد...".
قبل أن يحين وقت شهادتي بقليل، اقترب المدَّعي العام منِّي وهمس في أُذني: "لن تدلي بشهادتك للأسف، الجاني مدعومٌ من قبل جهة ضاغطة ومهدِّدة، حتَّى إنها استطاعت أن تستميل القاضي إلى جهتها..." نظرتُ إليه وعيناي تقذفان شرراً: "لم أدرِ أنَّ حال وطننا قد وصل إلى هذا الحدِّ من الانحطاط! هذا غير مقبول، سأُدلي بشهادتي من أجل مَن قُتل، من أجلِ مَن بكاه، من أجلنا جميعاً!" هزَّ المدَّعي العام رأسه قائلاً: "قضي الأمر... ليس باليد شيء! عليكِ أن تدركي معنى هذا!" اغرورقت عيناي بالدُّموع واندفعتُ خارج القاعة معلنةً الحِداد على العدالة.
لم تنجح غزارة الأمطار في إخماد نار صدري، ولم أُردها أن تَخمد. ستظلُّ مشتعلة في صدري إلى أن تمتدَّ إلى صدرِ كلِّ حرٍّ. ستظلُّ مشتعلةً إلى أن تلتهم النَّار طبقةً حاكمةً هشَّة، جفَّ عُودها واقترب موعد احتراقها.
نظرتُ حولي، فرأيتُ في صدور النَّاس نيراناً...
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة