بواعث الأمل.. بين جدران العزل
قديمًا قالوا: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل". ذلك أنّ الناس تفهم هذا التعبير كلّ حسب مزاجه وما يخدم هواه. ولمّا كان مطلوب من المسلم المؤمن وفقًا للحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، فينبغي إذًا تحكيم هذا الهوى وجعله في مساره الصحيح.
ومن هنا نقول إنّ مسار حديثنا له باب واحد هو البحث في بواعث الأمل بين جدران العزل. وهذه البواعث يمكن استمدادها من النص القرآني والهدْي النبوي والأثر التاريخي. فأمّا النص القرآني فهو ذاخر بما هو عام وما هو خاص في هذا المجال. فقد خاطب الله عباده المؤمنين بما يريح قلوبهم ويهدّئ نفوسهم في مواطن الألم والجزع، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ آل عمران 139، ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ آل عمران140. فإذا هذا اختبار ينبغي لكلّ مؤمن أن يجتازه حتّى يصل إلى مرتبة أن يكون من أهل الشهادة عند الله على الناس، وأن هذه الدنيا لا تصفو لأهلها وهي في تقلّب مستمر، ومثلهم فيها كمثل من ركب سفينة في بحر عميق فهو ساعة يهيج بهم موجه وساعة يصفو. وحينًا تزفر الرياح حولهم وأحيانًا تخبو. فلا بدّ والحالة هذه إلّا الاستعانة بالصبر حتّى بلوغ الظفر.
وقد وضع الله لرسوله بواعث الأمل في ما أخبره به وذكره فيه عندما أسرد له من قصص الأنبياء المرسلين. عندما جمع له في آية واحدة الغاية من ذلك كلّه، فقال سبحانه مخاطبًا رسوله الكريم: ﴿كُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ هود 120، فقد ثبّت الله فؤاد رسوله عندما ضرب له الأمثال بمن سبقه من الرسل، ومنهم نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عامًا يدعوهم ليلًا ونهارًا، وكان أمله بالله هو الدافع وهو الوازع لهذا الصبر بلا تأفّف في النفس ولا قلب جازع. وأمّا نبيّ الله موسى فقد وقف أمام فرعون عصره مدّعي الربوبيّة والألوهيّة ومَن سخَّر قومه تحت سلطانه بلا منازع، فكان ردّ الله عليه أن علّم موسى الصبر عليه حتّى يلقى مصيره الفاجع في اليمّ غريقًا لا أنيسًا له ولا شافع.
وأمّا نبيّ الله يوسف فقد ابتلاه الله من صباه، وألقاه أخوته في الجبّ، وتركوه في غياباته المظلمة أيّامًا وليالي قابعًا. وهو في قعر الجبّ أتاه وحي السماء ساطعًا ليخبر أخوته بما فعلوا به يومًا يكون فيه ملكًا وهم على أعتاب قصره كل واحد يقف ذليلًا خاضعًا، وقد لاقى الفتن من القصر إلى السجن وبواعث الأمل في الله في قلبه تُختزن. وبعدها وصل إلى خزائن الأرض بين يديه تُؤتمن. وبعدها صار ملكًا مهابًا في قصره، وقال فيه ما ينبغي أن يدعوَ به مَن ملَّكه اللهُ الحكمَ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ يوسف101.
وأمّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد جمع الله فيه كلّ ما جمعه في رسله من بواعث الأمل في الصبر. وكانت رسالته من المبتدأ إلى المنتهى كلّها دروس. فقد أعطاه جرعات من الصبر، فقال له في أكثر من آية ما يحثّه على الصبر وعدم الجزع والكدر: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ النحل 127، وعدٌ إلهيٌّ مُنتظر. وعانى الرسول من الآلام في الجسد والأهل والولد ما لا يمكن حصره في النظر، ومن الأذى من البدو والحضر، وعلمه أنّه معه ما ودَّعه وما قلاه ولسوف يرضيه إن هو قد صبر.
إنّها مسيرة أهل الإيمان في كل زمان ومكان. سردنا بعضًا منها. ومدار حديثنا أنّ الأمل بالله لا يعدله أيّ عادل، وأنّ زماننا الذي تختزن فيه الأمّة كلّ هذه الكوارث وما تعتصر القلوب من الفواجع لما أصاب أهل فلسطين وغزّة ولبنان من مواجع، وتجد لغزّة نصيبًا عاليًا من الأمل، مع كلّ هذا التحريف الباطل والجدل من الذين باعوا دينهم وأرادوا أن يبقوا خلف الجدران كمثل عاجز قد اعتزل، وأمّا الذين قد حداهم بالله الأمل، فلا خوف عليهم ولا وجل، وسيصلوا إلى من لا يصل، إلّا مَن بالله قلبُه قد اتصل، والله ينزّل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، ومَن سكن قلبُه هان عليه حزنُه ووجدُه، واطمأنّ ليومه وبعده. فكيف يخاف من كان عبدًا لله وحده؟ وكيف يعتريه الهمّ من ذاق من الوصل بالله رحيق شهده؟ إنّها سعادة لو عرف بها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف بغمده ونصله.
نسأل الله أن يجعلنا أهلًا لمن نال في دنياه سعده ومجده، وصرف عنا وعن الأمّة كلّها ما أهمّها وأغمّها، وجعل الإيمان واليقين مستقرّها ومستودعها، كلّ في كتاب مبين والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!